في ذكرى انتفاضة تشرين اللبنانية
مرّت ثلاث سنوات على انتفاضة 17 تشرين (2019) التي قام الشعب اللبناني بها، من دون أن تتحقق معظم الغايات والأهداف التي قامت من أجلها. بل نرى الأحوال تذهب باتجاهاتٍ تخالف أبسط ما كانت تنادي به، وصولًا إلى إمكانية قول بعضهم فيها: كأنها لم تكن.
لم تكن محاولة تحقيق الخروق في الانتخابات النيابية، والانزلاق إلى ملعب السلطة، كما وإعطائها شرعية التمثيل، من الأهداف المباشرة للانتفاضة. أما المراوحة في مسألة انتخابات رئاسة الجمهورية فلم تخطر في بال أيٍّ من المنتفضين. كما وأن محاولة تشكيل حكومة، على النحو السائد، والعودة إلى معادلات السلطة المفاضلة بين رؤساء تندرج أسماؤهم في لائحة المرتكبين، وإنْ لم يشارك "نواب التغيير" في تسميتهم، فلم تكن من هذه الأهداف أيضًا. بالأحرى، يمكن القول، ومن دون أي أسباب تخفيفية، إن قوى التغيير لم تكن مستعدّة لمثل هذا النوع من السيناريوهات، كما وأنها لم تكن مهيأة لدخول هذا النوع من الاستحقاقات.
ثلاث سنوات والحال من سيئ إلى أسوأ. انتصرت قوى النظام في مهاتراتها وألاعيبها على ضحالة قوى التغيير، ولبنان يتنقل بين مستويات الانهيار، من أدناها إلى أعلاها. وصولًا اليوم إلى انهيار كل مؤسّسات الدولة، خصوصًا ما نعاينه على مستوى القطاعات التربوية. كما ونشاهد انهيارات النقابات والروابط الساقطة بيدّ السلطة، من دون أن تكثف قوى التغيير قدرتها لا على استعادتها، ولا على تأسيس أطر نقابية بديلة يمكن أن تشكّل صمّام أمانٍ لمواجهة عنف السلطة خلال الانهيار الذي تعيشه القطاعات المختلفة.
ليس في الأمر شجن، أو خوف، أو حتى بكاء على ما كان سائدًا. ليس في الأمر حنينٌ إلى ما مرّ وانتهى، فما كان قائمًا كان بحاجة لتغيير، كان بحاجة لاقتلاع، فقد كان مصدرًا لكل جريمة نعيش تفاصيلها اليوم. وما كان سائدًا من أسباب الفساد لا يتمثّل، ولا ينحصر في المستوى السياسي فحسب، بل يمتد ليشمل كل المستويات الفردية والجماعية الأخرى.
فقدت هذه الانتفاضة، وهذا الفعل التغييري، القدرة على طرح الأسئلة في زمانها ومكانها وموضعها
الانهيار الذي يعيش اللبنانيون تفاصيله ليس وليد ممارسة سياسية خاطئة، أو ممارسة مقصودة تسعى إلى تحقيق غايات خفية لم تظهر للبنانيين. بل كانت الشروط المنطقية لحالة الاحتضار كامنة في السابق، كانت شروط الانحلال والفساد قد تحكّمت بكل ما هو قائم، إلى درجة أن تحوّل القائم فأصبح فسادًا تامًا. لبنان في السنوات الماضية كان ولا يزال بمثابة فساد له نظام. وكانت كل الدراسات الجدّية تؤكّد أن النظام في لبنان سيصل إلى نتيجة كارثية، بمعزل عن التنبؤ بمدى شبهها بالحالة التي وصلنا إليها اليوم. إلا أنه بات واضحًا أن أفرادا كثيرين، كما الجماعات، التي كان من المفترض أن تتجهّز لتكون على قدر التحدّيات، ولتقارع وتنتزع الكلام، لم تتهيأ لفرض نمطها في تحديد أمكنة ومستويات المواجهة. بل يبدو أن العيش على رغد النظام الذي تريد أن تغيّره، أو لربما محاولة الانضمام للعيش في كنفه، كانت السمة الغالبة.
وصل اللبنانيون إلى انسداد في النظام، وإلى انسدادٍ مماثلٍ في أدوات تغييره. انسداد الأفق والفكر والعقل أمام كل إمكانية، وانسداد الممارسة والقدرة على التغيير. لا بل انسداد مفهوم الإمكانية نفسه. لقد علقت الأحزاب والجماعات التغييرية في المستوى ذاته الذي علقت أحزاب السلطة وقوى الأمر الواقع فيه. وها هو المجتمع الدولي يحمي إمكانية الموت القائمة، فيطيل عمر جثّة نظامٍ هامدةٍ لا حياة فيها ولا روح.
لكن، ماذا بعد؟ لطالما كان هذا السؤال حكرًا على الأنظمة وعلى قوى الأمر الواقع وعلى من يستطيع التحكّم ببعض شروط ما هو آتٍ، فيستخدمه لكي يمارس عنفه الرمزي والفوقي على المنتفضين. كانت قوى الأمر الواقع تستخدم هذا السؤال لتعلن للناس، لناسِها أولًا، أنها ما زالت تتمتّع بكل إمكانيات طرح البديل، وإن لم يكن بديلها إلا حالة مراوحة مزيّنة بقشور خارجية جديدة. فهل يرتبط ويتمحور القادم على مستوى لبنان حول النفط والغاز والثروات الطبيعية بوصفها الإمكانيات الوحيدة المتاحة؟ أم تراه ينزاح ليرتبط بالقوى المهيمنة التي ستنهب وتستبيح كل هذه الثروات، كما أفسدت واستباحت كل إمكانية قبل ذلك؟
حالة احتضار لا خروج منها بالمحافظة على شروط بقائها
هذا بيت القصيد، وهذا سؤال الأسئلة. هنا عودة إلى بعض روحية الانتفاضة في عزّها. فمن يقرّر في المسائل، وفي أي اتجاه؟ لقد فقدت هذه الانتفاضة، وهذا الفعل التغييري، القدرة على طرح الأسئلة في زمانها ومكانها وموضعها، ما انعكس في فراغ الخطاب وفي اضمحلال الأجوبة الذي يضرب عميقًا في وعي قوى التغيير وسرديتها. وهذا في مقدّمة الأسباب التي تعيق قدرتها على أي فعل، وعلى فتح أي كوّة في الجدار.
هي ليست نعياً، ليست إعلان موت، بل توصيف حالة احتضار لا خروج منها بالمحافظة على شروط بقائها. فلا يذهبّن أحدٌ إلى القول إن من الظلم تحميل قوى التغيير مسؤولياتٍ لا تتحمّلها وتتخطّى قدرتها ونطاق عملها. بل تحتّم الشروط أن ينتهي تبرير عمل الهواة هذا، إذ لم يعد بالإمكان استبعاد ضرورة الانتقال إلى العمل الجاد والمنظّم والقادر على إحداث أي أثر. لم يعد بالإمكان ممارسة الرفاهية في ظل قوى سلطوية تتنازل عن حقّ الدولة والشعب في أرضه، وحقه في حدوده، وتبيع أصول دولته وثرواته للعدو، بهدف بقائها في السلطة لتستكمل عملية نهب ما تحت الأرض، بعد أن انتهت من نهب ما فوقها.