في دلالات الاغتيال المعنوي والإعلامي لقادة الجيش الإسرائيلي
يلحظ المتابع للإعلام الصهيوني، ولتصريحات السياسيين الموالين للحكومة الإسرائيلية، أنّ هناك تعمّداً لإهانة قادة الجيش وترويج الاتهامات الموجّهة إليهم بالفشل، في شكل من الاغتيال المعنوي المقصود، والمُوجّه من سياسيين ومُحلّلين، وقنوات وصحف يحمل أغلبها أجنداتٍ مواليةً للائتلاف الحاكم.
يمكن القول إنّ السياسة التي اتبعها بنيامين نتنياهو، وقادة حكومته، منذ موقعة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، تحميل القادة العسكريين الفشل الذي حدث؛ وهذا التوجّه زاد بدرجة كبيرة خلال الشهرَين الماضيَين، حتّى أصبح السمةَ الغالبةَ في التعامل مع القادة العسكريين في أغلب وسائل الإعلام اليمينية، والذي تكرّره شخصيات كثيرة. كان النيل من القادة العسكريين في الشهور الماضية أقرب إلى الطابع الفردي؛ وكان معتاداً أن يُتّهم قادة الجيش "بالسعي لتنفيذ انقلاب ضدّ نتنياهو"، مثلما تحدّثت سارة نتنياهو، المتّهمة بالتأثير الكبير في قرارات زوجها السياسية، وهو ما أشارت إليه الصحافية في "معاريف" آنا برسكي، في يونيو/ حزيران الماضي، أو أن تصدر اتّهامات مماثلة من خلال تغريدات كتبها يائير نتنياهو، أو من خلال تسريب المناوشات الكلامية بين الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش من جهة، ووزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت ورئيس أركانه هرتسي هليفي من جهة أخرى، في أثناء اجتماعات مجلس الوزراء، وآخرها تسريب كلام غالانت كاملاً أمام لجنة الأمن القومي في الكنيست، الذي تحدّث فيه عن صعوبة تحقيق ما يسمّى بـ"النصر المطلق".
تصاعدت الانتقادات للمؤسّسة العسكرية الإسرائيلية وأخذت شكلَ الاغتيال المعنوي المُنظّم لقادتها
غير أنّ الملاحظ أخيراً تصاعد هذه الموجة من الانتقادات لتصبح أكثر كثافةً، وتأخذ شكلَ الاغتيال المعنوي المُنظّم للقادة العسكريين؛ وفي مُقدّمتهم وزير الأمن الإسرائيلي، ورئيس الأركان، ورئيسي جهازي الشاباك والاستخبارات العسكرية (أمان). وهي انتقادات بالفشل الذي بدأ في الجنوب، ثمّ امتدّ إلى الشمال أيضاً حين فوتّت هذه القيادات، حسب المراسل العسكري للقناة 14 نوعم أمير، الفرصةَ أكثر من مرّة لضرب حزب الله وتغيير الوضع هناك، وإعادة المستوطنين إلى الشمال. وهذا يعني أنّ الحكومة وأذرعها الإعلامية وسياسيّيها تروّج أنّ المستوى العسكري وحده هو الذي يتحمّل ما حدث كلّه من فشل عسكري منذ بدء "طوفان الأقصى"، وما ارتبط به من تخطيط عسكري ومبادرات ميدانية.
ويمتدّ النقد إلى اتّهام مسؤولين عسكريين كبار بانعدام الكفاءة، من دون التطرّق إلى مسؤولية نتنياهو عن تعيين هذه القيادات العسكرية. الخلافات المتصاعدة بين نتنياهو وغالانت تجعل الأخير في بؤرة المُعرَّضين للنقد من هذا النوع، فغرّدت عضو الكنيست عن الليكود تالي غوتليب، معبّرةً عن خيبة أملها فيه، بعد أن كانت تظنّ أنّه الشخص الأمثل لقيادة وزارة الحرب، وأنّها أخطأت بعد تأكّدها عدم امتلاكه المُؤهّلات المطلوبة لمسؤول بهذا الحجم، يُفترَض به معرفة نيات العدوّ وقدراته وعلاقاته في الشرق الأوسط. وترى غوتليب أنّ وزير الحرب ينبغي أن يكون من خارج المؤسّسة العسكرية، وكذلك مستشاريه، لأنّ القادم من داخل هذه المؤسّسة يصطفّ مع المستوى العسكري لا السياسي، ولا يمكنه مخالفةَ رئيس الأركان، أو رئيس الشاباك، فيما ينبغي أن يتشكّك في كلّ ما يُقدَّم له من استشارات من النخبة العسكرية والاستخبارية المحيطة به. يضاف إلى ذلك أنّه لا يتماهى مع نتنياهو، ويتجرّأ عليه، ويتحدّث عنه بازدراء. وتقترح غوتليب تعيين نتنياهو وزيراً إضافيّاً في وزارة الحرب بصلاحياتٍ موازيةٍ لصلاحيات غالانت، وأن يكون هذا الوزير عين الحكومة وأذناً لها في ما يحدث في الغرف المغلقة بين الجنرالات، الذين يعتقدون أنّهم وحدهم الذين يفهمون.
هكذا ينتقل الحديث من التشكيك في قدرات غالانت إلى التشكّك في نيّات القادة العسكريين كلهم تجاه الحكومة، واعتبارهم جزءاً من الدولة العميقة التي تتّفق مع المُعارَضة لإفشال الحكومة، لتنقل صورةَ علاقةٍ كارثيةٍ، وصورة صراعٍ بين الائتلاف الحاكم والجيش الصهيوني، تكون القدرة على حسمه مرتبطةً بمن يستطيع فضح الطرف الآخر أكثر.
على هذا النحو، امتدّت عملية الفضح لتصل لرئيس الأركان هرتسي هليفي؛ وكانت القناة 14 (الموالية للحكومة)، قد نشرت في 18 من الشهر الماضي (أغسطس/ آب)، تقريراً عن زيارة زوجة هليفي عائلةَ أحد قتلى الجيش الصهيوني في غزّة في ديسمبر/ كانون الأول الماضي؛ واستضافت القناة والد القتيل، الذي كشف تفاصيل الزيارة، وكشف عدم رغبة الأسرة لقاء زوجة رئيس الأركان، وأنّ اللقاء جرى، في النهاية، بتنسيق مكتب زوجها، وحضورها بصحبة رائدٍ وسائقٍ عسكري. وتحكي القناة أنّ أمّ الجندي القتيل صرخت في زوجة رئيس الأركان أنّ زوجها هو المسؤول عن قتل ابنها، وأنّ مكانه في السجن، والتجريد من زيّه العسكري، وترك إدارة الحرب في غزّة لشخص آخر. لم تتوقّف القناةُ عند هذا الحدّ؛ فتطرّقت إلى استغلال زوجة رئيس الأركان مقدرات الجيش في زيارتها، رغم أنّها ليست شخصيةً رسميةً؛ لأنّ من نسّق للزيارة، ومن صحبها ضباط من رئاسة الأركان. وهكذا روّج استغلال المنصب نمطاً ثابتاً لدى هليفي، وهو ما ترسّخ بعدما نشر موقع قناة كان خبراً عن تعيينه إحدى قريباته في مهمّة كبيرة ضمن عملية التحقيق في أحداث 7 أكتوبر (2023).
في سياق انتقاد القادة العسكريين الكبار، كانت القناة "أي 24" الإسرائيلية قد نشرت في الأيام الماضية أجزاءً من كلمةٍ للواء احتياط غاي حزوت أمام "ملتقى القادة والمحاربين"، تضمّنت نقداً كبيراً لما يحدث في الجيش، ووصفت انتقاداته بالخطيرة، خصوصاً أنّه كان مسؤولاً عن التحقيقات في القوات البرّية في الجيش الإسرائيلي، وتولى مناصبَ قياديةً كبيرةً في القطاع الجنوبي للجيش، إضافةً إلى كتاب أصدره منذ عدّة شهور تناول جوانب الفشل في بنية الجيش في السنوات التي سبقت الحرب. وفي كلمته، أكّد حزوت أنّ "الفشل الأخطر في هذه الحرب هو إدارتها وطريقة اتّخاذ القرارات فيها، وأسلوب الحرب ضدّ (حماس)، الذي ساهم في بقاء أكثر من نصف مقاتليها أحياءً، إضافة لما تقوم به الحركة من إعادة ترميم قوّاتها في أجزاء واسعة من القطاع لم يدخلها الجنود الإسرائيليون منذ ستّة أشهر في الأقلّ، وهي مناطق تمتدّ من مخيم الشاطئ، شمال القطاع، وصولاً إلى المساحة الواسعة بين خانيونس ورفح جنوباً". حديث حزوت الأخطر ارتبط بكلامه عن "إفلاس التحقيقات في الجيش الإسرائيلي، وعدم ثقة أيّ طرف في تحقيقات الجيش، لأنّ كلّ ما يريده القادة العسكريون هو تغطية عوراتهم، وليس التعلّم من الأخطاء". كانت انتقادات حزوت موجّهةً بوضوح إلى رئيس الأركان هليفي، وإلى قادة الشاباك والمخابرات العسكرية، وهو ما دفع أحد محلّلي القناة المذكورة إلى اعتبار هليفي المسؤولَ عن فشل "7 أكتوبر"، وكذلك عن طريقة إدارة الحرب، وعلى هذا الأساس "كان ينبغي له الاستقالة لأنّه فاشل، فهو من كان يدير الجيش في السابع من أكتوبر وليس أيَّ ضابط آخر، وهو المسؤول عن طريقة إدارة الحرب، وفقدان ثقة الضبّاط به"، وعلق آخر بأنّ ما يحدث حالياً، وما حدث في السابع من أكتوبر، يشيران إلى أنّ مستوى الجندية الأساسي في الجيش يقول إنّ هذا لم يعد جيشاً منذ فترة طويلة.
تؤدي انتقادات حكومة نتنياهو للمؤسسة العسكرية إلى تشويه صورة مثالية رسمها الجمهور الإسرائيلي للجيش
ويتزامن ذلك كلّه مع الرسالة التي رفعت إلى المحكمة العُليا من مراقب الدولة، الذي عينه نتنياهو للتحقيق في الفشل الذي شهدته إسرائيل في معركة "طوفان الأقصى"، يُعلِمها بفشل الاتصالات التي أدارها مع الجيش من أجل إجراء تحقيقات بشّان هذا الكارثة، ويطالب قضاة المحكمة بوقف الأمر القضائي الذي أصدرته المحكمة في منتصف يونيو/ حزيران الماضي، والذي يُجمّد التحقيقات مع القيادات العسكرية. وكتب مراقب الدولة إلى المحكمة العُليا أنّه لم يعد مقبولاً ذلك الوضع الذي لا يُسمَح فيه لأيّ جهة خارجية بالقيام بنقد الجيش ومراجعة عمله (هو والشاباك) في السابع من أكتوبر (2023).
هكذا، لم يعد من الممكن اعتبار الاتهامات والسخرية المنتشرة في الصحافة الإسرائيلية ووسائل التواصل الاجتماعي من رجال الحكومة وأنصارها ضدّ المسؤولين العسكريين في الجيش الصهيوني انتقاداتٍ فرديةً، بل هي حملةٌ منظّمةٌ تماماً، ومستمرّة يتم فيها الاغتيال المعنوي لقادة الجيش من أجل ترسيخ ما تريده القوى المشاركة في الحكومة الإسرائيلية منذ اليوم الأول للحرب في غزّة، بتحميل المسؤولية الكاملة عن الفشل للقيادة العسكرية. وهذا التوجّه يوظّفه السياسيون في الحكومة من أجل هدفَين؛ أحدهما إظهار أنفسهم على أنهم هم تحديداً الذين يعالجون جوانب قصور الجيش، والآخر ترميم صورتهم أمام جماهيرهم، وهو ما يحدث بشكل تدريجي وتكشفه استطلاعات الرأي. غير أنّهم من أجل تحقيق هذه الأهداف يساهمون بشكل متسارع في تعميق زعزعة ثقة الضبّاط والجنود في قادتهم، وفي تشويه الصورة المثالية التي رسمها الجمهور الإسرائيلي لجيشه منذ قيام الدولة، وهو ما يرسّخ استمرار الفشل طالما استمرّ هؤلاء القادة في مواقعهم.