في خطر الأوليغارشية المغربية
من يحكم المغرب؟ أو من يملك المغرب؟ سؤالان يُطرحان باستمرار يؤرّقان الباحثين والمهتمين والسياسيين والمعارضين كما الموالين، لأن الحكم في المغرب ظلّ بمثابة صندوق مغلق وغامض، أما ما يظهر على السطح فهو مجرّد رأس جبل الجليد الذي لا يعرف عمقه وسمكه وحجمه. العودة إلى إثارة هذا السؤال جاءت بمناسبة تقرير إخباري لصحيفة لوموند الفرنسية عن "الأوليغارشية" التي تُدير الشأن العام في المغرب، والتي بات نفوذها ووجودها في الحياة العامة واضحين، منذ تولّى رئاسة الحكومة، عام 2021، رجل الأعمال عزيز أخنوش، الذي تصنّفه مجلة فوربس في المرتبة الرابعة عشرة بين أثرياء القارّة السمراء.
لفت تقرير الصحيفة الفرنسية الانتباه إلى المخاوف من تنامي نفوذ الأوليغارشية داخل الحياة السياسية المغربية، التي أثارتها التعيينات أخيراً لرئيس الجهاز التنفيذي داخل الحكومة أو رئاسة مؤسّسات عمومية ضمّت شخصيات تكنوقراطية غير منتخبة، وتحكّمت فيها علاقات المصالح والزبونية التي تربطها برئيس الحكومة وشركاته ومصالحه، ما دفع هيئات سياسية مغربية ووسائل إعلام محلية إلى الحديث صراحةً عن استحواذ رجال أعمال وهيمنتهم على الحياة السياسية، وما بات يمثله هذا الاستحواذ من خطرٍ يُهدّد سير المؤسّسات ويزعزع ثقة المواطن في عملية ديمقراطية هشّة وشكلية.
"ثقافة" الأوليغارشية التي نلمسها اليوم داخل الحكومة وداخل المجالس المنتخبة، بما فيها البرلمان، امتد تأثيرها إلى الأحزاب السياسية والنقابات والإعلام والفضاء العام
لهذه البنية من شبكة العلاقات المعقّدة متعدّدة الأذرع امتدادات مالية واقتصادية وسياسية، تفرض احتكارها على عالم المال والأعمال، وتبسُط نفوذها على الاقتصاد وتتحكّم في دواليبه، ويمتد تأثيرها إلى مراكز القرار السياسي داخل الدولة والمجتمع، هي ما يطلق عليه "الأوليغارشية المغربية"، التي لم يعد وجودها مجرد تصوّر نظري لدى المراقبين للشأن العام المغربي، أو خطاب سياسي تتبنّاه المعارضات المختلفة، وإنما واقع ملموس يتمثّل في مجموعة من رجال الأعمال يحتكرون المال والأعمال والسلطة، وجماعة من الأعيان يؤثّثون المجالس المنتخبة، وعدد لا يُحصى من أصحاب المصالح، تمتدّ أذرعهم وتأثيرهم إلى حيث توجد مصالحهم، وحفنة من النخب ورجال الدين المستعدين لتقديم خدماتهم وولائهم لكل هذه الفئات، وأجهزة تابعة للدولة تحرص على تقديم الحماية وتهيئ الأجواء لهذه الأوليغارشية لفرض هيمنتها على المجتمع وتقوية نفوذها داخل الدولة.
مفهوم الأوليغارشيا، في الحالة المغربية، ليس المقصود به التعريف التقليدي والكلاسيكي للكلمة التي تعني حكم الأقلية التي تحتكر المال والسلطة، وإنما المقصود هنا نسق عام لمجموعة من الأفعال والتفاعلات داخل شبكة علاقات معقّدة يسعى أطرافها، بوعي أو بدونه، إلى إنتاج قيم ومعتقدات ورموز مشتركة لفرض تسيّدها على الأفراد وعلى المجتمع، وهو ما يمكن أن ننعته بـ "ثقافة" الأوليغارشية التي نلمسها اليوم داخل الحكومة وداخل المجالس المنتخبة، بما فيها البرلمان، ويمتد تأثيرها إلى الأحزاب السياسية والنقابات والإعلام، بل وأصبحت مظاهرها تنتشر حتى داخل الفضاء العام في جميع القطاعات وعلى جميع المستويات.
لم يعد وجود "الأوليغارشية المغربية" مجرّد تصوّر نظري لدى المراقبين للشأن العام المغربي، أو خطاب سياسي تتبنّاه المعارضات المختلفة، وإنما واقع ملموس
والواقع أن بنية هذا النظام ليست مستحدثة ولا جديدة داخل الواقع المغربي، بما أن ما يشبه هذه البنية كان موجوداً في المغرب منذ عدة قرون، وهي صورة مشوّهة لبنية الأنظمة الأرستقراطية الفاسدة التي تعاقبت على حكم المغرب منذ قرون، من خلال تحالف أصحاب السلطة والمال والنفوذ لفرض هيمنتهم واستحواذهم على الدولة والمجتمع. وكان أول من أثار الانتباه إلى وجود هذه البنية، في عمل أكاديمي، عالم السياسية الأميركي جون واتربوري، في كتابه "الملكية والنخبة السياسية" الصادر في سبعينيات القرن الماضي، والذي أصبح عملاً مرجعيّاً لفهم بنية السلطة السياسية في المغرب التي ما زالت كما وصفها "عالماً مغلقاً، ومجتمعاً ضيقاً"، تتجسّد على شكل هرم توجد العائلة الملكية في قمتها يرأسها الملك، تعتمد في حكمها على ما يعرف بالأسر المخزنية، وهي العائلات التي خدمت السلطان عدة قرون، وعُرفت بولائها وإخلاصها للنظام، وعلى تحالفها وتقاطع مصالحها مع الأسر الغنية العريقة التي ورثت الجاه والمال جيلاً عن جيل، وهي شبكة علاقات عائلية متداخلة يربط بينها الدم، كما المال والأعمال. والركيزة الثالثة التي يقوم عليها هذا الهرم هم أصحاب الولاءات الذين يجرى شراؤهم، سواء بالمناصب الكبيرة والامتيازات الضخمة، وكل ما تتيحه سياسة الريْع من توزيع للمنافع السياسية والمادية لدى السلطة لاستقطاب النخب وضمان ولاءات أدوات التحكّم والضبط والتأطير والتأثير داخل الدولة والمجتمع.
هل ما يشهده المغرب اليوم إعادة إحياء لهذه البنية التقليدية أم إنها البنية نفسها ما زالت تشتغل في الخفاء منذ عدة قرون أصبحت اليوم بارزة وجلية، لأن نفوذها تقوّى، ولم تعد تخشى من وجود معارضات جراء شراء ولاء بعضها وقمع التمظهرات العنيدة منها؟ خطر هذه الأوليغارشية لا يتمثل فقط في عملها الدؤوب على احتكار الثروات ونهب الخيرات، وإنما في سعيها إلى إبطاء حركة التفاعل الاجتماعي من خلال بث ثقافة الريع وشراء الولاءات الطبقية، وإيجاد شبه إجماع وطني حول قضايا مشتركة تحظى بشعبية كبيرة مثل كرة القدم، وإذكاء روح الشوفينية الوطنية المنغلقة على الذات، وإيجاد عدو أجنبي لكسب شرعية وجودها وضمان بقائها وتوفير دوائر حماية كافية لمصالحها ونفوذها. كما يتمثل خطرها الحقيقي والملموس في تهديدها حرية الرأي والتعبير والتظاهر والاحتجاج والإضراب، من خلال القوانين التي تفرضها عبر تحكّمها في سلسلة إنتاج هذه القوانين وسنّها وفرضها وتنفيذها. وأخيراً، قد يهدّد خطر تنامي هذه الأوليغارشية حتى الحاكم كما يقول ميكيافيلي، فالمتأمل لفكر هذا الفيلسوف الإيطالي الذي كان يعادي حكم "الأقوياء" في فلورانسا سيكتشف أنه يحذّر من خطر الأوليغارشيا الفاسدة، ليس فقط على المجتمع، وإنما أيضاً على الحاكم نفسه "الأمير"، عندما يُعَرِّف الأمير الفاضل بأنه الحاكم الذي لا يتردّد إذا لزم الأمر، في إخماد غضب عددٍ صغير من "النبلاء الفاسدين"، مخافةً أن ينفجر الصراع بينهم وبين بقية الشعب. أو ليس هذا ما حذّر منه ابن خلدون عندما تحدّث عن خطر زواج السلطة والمال، وما يمثّله من مفسدة مطلقة تُؤذن بخراب للعمران؟