في "حدود" حرية التعبير
تُغَالي بعض الدعوات في النظر إلى حرية الرأي والتعبير باعتبارها "مطلقة"، لا تقف عند حدود مقدسات أو محرّمات أو ضرر أو إيذاء بآخرين يعيشون في المجتمع نفسه. وقد شاهدنا مثال هذه الدعوة المطلقة في موقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إبان أزمة الرسوم المسيئة للنبي صلّى الله عليه وسلم في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، والتي صعّد فيها "حرية التعبير" بإطلاقٍ لا يقف عند أيّ حدود.
ولكنّ الأحداث في مبنى الكونغرس الأميركي (الكابيتول)، وما تلاها، تظهِر بشكل واضح أنّ حرية الرأي والتعبير لا يمكن أن تُترك على إطلاقها. فقد دعا الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في تدوينةٍ له يوم 22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلى "مظاهرة عظيمة" في العاصمة يوم 6 يناير، زاعمًا أنّ نتيجة الانتخابات الرئاسية تعرّضت للاحتيال والخداع، وأنّ الفوز بالانتخابات من نصيبه، قائلاً: "سنكون متوحشين" مرّت التغريدة مثل مئات تغريدات ترامب الأخرى التي ألِفناها في السنوات الأربع الماضية، حتى جاء يوم الأربعاء 6 يناير/ كانون الثاني الجاري بالفعل، وشاهدنا مشهد الحشود المتظاهرة أمام "الكابيتول"، واقتحمه أنصار ترامب الغاضبون، و"المتوحشون" على حدّ تعبيره. تحولت كلمات ترامب إلى أحداث شغب وعنف أسفرت في نهاية اليوم عن مقتل خمسة أشخاص، منهم ضابط بوليس وأربعة آخرون من المتظاهرين من مؤيدي ترامب. وقد قرّر بعدها مارك زوكيربرغ، الرئيس التنفيذي لموقع فيسبوك، استخدام سلطته لمسح منشور ترامب الذي أنكر فيه نتيجة الانتخابات ودعا فيه إلى التظاهر، قائلاً إنّه أزال منشورات ترامب، لتقديره أنّ تأثيرها يمكن أن يثير العنف، ثمّ تلته شركة تويتر التي لم تكتفِ بإزالة تغريدة ترامب، بل علّقت حسابه.
الأفعال المصاحبة للكلمات هي التي تُعاقَب، وليست الكلمات نفسها
وهنا نقطةٌ مهمة، وهي أنّ ترامب لم يدعُ مباشرةً إلى العنف، بل دعا أنصاره إلى التظاهر اعتراضًا على نتيجة الانتخابات، وفي تقدير شركات التواصل الاجتماعي الشهيرة فإنّ تعبيره عن الرأي هذا لم يكن مجرّد كلمات، بل صاحبته أفعالٌ غير محسوبة، وكانت حصيلة اليوم مقتل خمسة أشخاص نتيجة شغب وعشوائية.
ولم يقف موقع تويتر عند حدّ تعليق حساب ترامب، بل جمّد بصورة نهائية أكثر من 70 ألف حساب مرتبط بحركة "كيو آنون" اليمينية، بناء على تقدير الشركة أنّ هذه الحسابات تنشر أخبارا كاذبة متعلقة بنتيجة الانتخابات الرئاسية الأميركية، وتحاول التحريض على العنف. وكانت هذه خطوة استباقية قبل تنصيب الرئيس الجديد جو بايدن. وهنا يُلاحظ كذلك أنّ هذه الشركات استخدمت سلطتها المباشرة باستقلال عن الجهات السيادية.
وفي الحقيقة، فإنّ منطق تقييد حرية الرأي والتعبير وُجِد، منذ البدايات الأولى لتشريع "حرية الرأي"، فحين كتب المشرّع الفرنسي مونتسكيو (1689 – 1755) كتابه "روح القوانين"، دعا فيه إلى حرية تعبيرٍ لا تتجاوز مجرّد التلفظ بالكلمات، واشترط ألاّ تصاحبها أفعال من أيّ نوع. يقول مونتسكيو: "الرجل الذي سيذهب إلى السوق العام لإثارة الجماهير للثورة يتحمّل وزر الخيانة العظمى، لأنّ الكلمات هنا اتصلت بالأفعال، وهنا فإن الأفعال المصاحبة للكلمات هي التي تُعاقَب، وليست الكلمات نفسها". تدلّ كلمات مونتسكيو بوضوح أنّه لا يرى حرية الرأي المطلقة، بل إنّ هذه الحرية يجب ألاّ تعدو كونها مجرّد كلماتٍ لا تؤثر في الواقع مطلقًا؛ بل يرى مونتسكيو أنّ التحريض على الثورة فعل مجرّم يستحق العقاب. أي أنّ حرية الرأي من الجهة التشريعية نشأت نشأة مقيدة لا مطلقة. يكتب القاضي الأميركي، أوليفر ويندل هولمز، عام 1919 "تقييد الرأي مشروع فقط إذا شكّل خطرًا واضحًا وحاضرًا، وهو ما يعني خطرًا وتهديدًا للأمن وللمصالح العامّة".
لا يمكن ترك حرية التعبير مطلقة من دون تقييد يمنع الإساءات والعنف
واحتمال حدوث العنف نتيجة الرأي والتعبير غير الواعي لخطورة الكلام وتأثيره ليس السبب الوحيد لتقييد حرية الرأي والتعبير، بل هناك أسباب أخرى للتقييد، لا تقلّ أهمية عن احتمال حدوث العنف، وهي التشهير والإساءة لسمعة شخصٍ محدّد، والدعوة إلى الفحش، وحالات المنع المسبق من النشر، مثل حالات المنع من نشر بعض القضايا. ولذا، فإنّ المادة الأولى من الدستور الأميركي، والتي تنظم حرية الرأي والتعبير، استثنت هذه الحالات من الحماية القانونية لحرية التعبير، فبحسب هذه المادة، التعبير المحتوي على فحش أو شِجَار أو شهادة زور أو ابتزاز أو إثارة لفعل غير قانوني أو إغراء لارتكاب جرائم أو تهديدات مباشرة أو أفلام إباحية كلها حالات تعبيرٍ لا تقع تحت "الحماية" بل على العكس، يمكن أن تقع تحت طائلة العقاب.
في النهاية، حرية الرأي والتعبير من الجهة القانونية والتاريخية محدّدة سلفًا، ولا يمكن تركها مطلقة من دون تقييد يمنع الإساءات والعنف، ويحترم قواعد العيش المشترك وقواعد السياسة معًا.