في حبّ من سكن الديار

22 ابريل 2022

(ريم يسوف)

+ الخط -

لنفترض أنّ رجلاً نسيَ الطّريق إلى بيته، لكن قدميه قادتاه إلى باب البيتِ، بلا جهدٍ ولا ذاكرة، سوى ذاكرة الطّريق التي يأخذها كلّ يوم. أو حصاناً يعرف الطّريق إلى البيت، رغم أنّه لا يملك عقلاً، فهل له ذاكرة رغم أنّه بلا عقل؟ وهل البيت موجودٌ في حدِّ ذاته، أو أنّه لا معنى ولا روح له في غياب ساكنيه؟ لنتّبع الرجل إلى بيته، فنراه شارداً أو متحدّثاً على الهاتف أو مرفوقاً بضيفٍ مفاجئ لا يعرف البيت، لكن قدميه تواكبان قدمي صاحب البيت خطوةً بخطوة. ثم وجدا مكان البيت بيتاً آخر غريباً كلّياً. حينها سيسكن الهلع قلب الرّجلين. سيفكّر الضيف في أنّها خدعةٌ للتهرّب منه. أما صاحب البيت فسيُشكّك في ذاكرته. لن يقول إنّ البيت اختفى، أو إن هناك مقلبا ما، بل سيراجع تفاصيل الحي والشّارع، للمصادقة على خلاصته بخيانة الذّاكرة لسعيه نحو البيت، فهل يصبح فاقد الّذاكرة بلا وطن، فقط لأنّه لا يشعر بالانتماء؟ إذ تصنع الذاكرة الانتماء الحقيقي، حسب هذا المنطق. بدونها، نحن مثل الذي يعرف الطريق بحكم العادة، لا بالعاطفة ولا بالتذكّر أو التفكير.

لماذا نصرُّ على أن نكون وطنيين أكثر من الوطن؟ خصوصا أنّنا من دون ذاكرةٍ لا نفقد أبداً الانتماء إلى الإنسان. يرى آخرون أن الوطن هو بيتنا الحقيقي، الذي لن يختفي ولن نضلّ الطريق إليه. لهذا سمّى الأميركيون الوطن بيتاً Home، وكانوا موجزين وموفقين في تعريف الوطن مأوى حميما، أو بيتا دافئا. ولهم في ذلك أسباب منطقية، نظرا إلى الصّراعات التاريخية داخل المكوّنات الأصلية والدّخيلة. واستمرار الهجرات الدّائمة التي تحمل إليها انتماءاتٍ بلا عدد، وتحتاج لتطوير نزعة وطنية بلغت حد الشوفينية. وهو ما لا تجده في أوروبا مثلاً، حيث الوطن أمرٌ بديهي، وما يهمّ هو ما يقدّمه لك وما تقدّمه له. لعل هذا مربط الفرس. ماذا نقدّم لما ولمن نحبه، لكي نحافظ على رابط الحب، فالحبّ غير المرتبط بالعطاء لا معنى له. ماذا يفعل المعلم والأستاذ والطبيب والمهندس والعامل والفنان الفخورون ببلادهم؟ نشاهد مستويات التعليم الكارثية في جلّ دولنا. وضعف الضّمير المهني لدى أطباء وممرّضين ومهندسين ومقاولين كثيرين، ويحتار دليلنا. الغشّ فخرُ صناعةٍ وطنية، وإذا لم يكن هناك رقابة مشدّدة من رئيس مباشر، وغير فاسد أو من دون ضمير، فسترى العجب؛ عمارات تقع، مرضى يدخلون إلى المستشفيات العامة والخاصة لِعلّة بسيطة ويخرجون في الأكفان.

تقف أسباب كثيرة خلف الميول إلى التمسّك بالانتماء القُطري. قد تكون الألعاب الرياضية، خصوصا الجماهيرية، مثل كرة القدم التي تُنمّي التعصّب القُطري، تجاه بلدانٍ قريبةٍ وجارةٍ بشكل خاص؛ فكم أجّجت المباريات نعراتٍ قبلية ووطنية. وقد يكون التّواصل الاجتماعي ضمن الأسباب، هو الذي أنشأ صراعاتٍ بشأن مواضيع مختلفة؛ ففي حين كانت عنصرية شخص تجاه بلد أو عرق تبقى بين بني قومه، ولا تُثير أي ردود فعل لأنها لا تصل إلى الطرف الآخر.. إلّا إذا كانت صادرة عن شخصية معروفة، وعلى العلن، في وسيلة إعلامية.

الآن، يكتب أحدهم أو إحداهن جملة، يجري تشاركها وتصل إلى المعنيين بها، مثل كيسٍ بلاستيكي أسود، له طاقة خفّية على التنقل بعيداً رغم كل شيء، فتحدُث المواجهات التي لو كانت هناك سيوف وأعناق حقيقية في الافتراضي، لأُسيلت دماء كثيرة. بينما الوطن هو الإنسان نفسُه، وكلّما كنتَ رؤوفاً بالإنسان حولك كنت وطنيّا، وكلما كنت رحيماً بالأرض حولك كنت وطنياً، وكلما أدّيت عملك بضمير وعلى أحسن ما يمكن أن يكون، كنت وطنياً. وما نحتاجه، إدراك أقوى بأهمّية العالم المشترك: السّماء والأرض والبحار.. كلّ الأرض وطن الإنسان، بشرط أن يكون هذا الإنسان موجوداً. وإذا لم يدرك ذلك، مات جوعاً أو كمداً داخل قوقعته. وفي بيتي قيس بن الملوّح الشّهيرين مثال ساطع:

أَمرُّ على الدّيارِ ديارِ ليلى/ أُقبِّل ذا الجدارَ وذا الجِدارا.

وما حبُّ الدّيارِ شَغَفنَ قلبي/ ولكن حبُّ من سكنَ الديارا.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج