في حاجة تونس إلى عقول راشدة لا مكابرة

23 فبراير 2021

(حكيم تونسي)

+ الخط -

تتكوّن هيئة الحكم في تونس من ثلاث مؤسّسات دستورية، سيادية، وازنة: البرلمان وهو مؤسسّة تشريعية منتخبة، تمثّل جمهور الناخبين وعموم المواطنين، وتراقب أداء السلطة التنفيذية. ومؤسسة الرئاسة ويشرف عليها رئيس الجمهورية المنتخب بطريقة ديمقراطية مباشرة، وهو رمز وحدة الدولة وعنوان استمرارها واستقلالها. ومؤسسة رئاسة الحكومة المعنية بإدارة الشأن العامّ وتنفيذ السياسات العامّة للدولة في مختلف المجالات الحيوية. والعلاقة بين هذه المؤسّسات ضرورية في السياق السياسي/ الدستوري التونسي. ومثال ذلك أنّ أعضاء الحكومة يقترحهم رئيس الوزراء، وينالون الثقة من عدمها من مجلس نواب الشعب، ويؤدّون اليمين أمام رئيس الجمهورية لمباشرة مهامّهم. ويفترض أن تنبني العلاقة بين الرئاسات الثلاث على التنسيق والتواصل والتعاون، لضمان سيرورة الدولة وخدمة المواطنين، وتحقيق المصلحة العامّة. والمشهود في تونس حاليّا غلبة التنافر بين أطراف هيئة الحكم واشتداد الصراع بينها على الدستور، وعلى الصلاحيات.
الدستور وثيقة مرجعية، وضعية، مدنية يحتكم إليها الحاكم والمحكوم في تسيير دواليب الدولة، ويرد في الغالب على جهة الإجمال والإيجاز، ولا يشترط أن يشمل كلّ تفاصيل الحياة اليومية، وكلّ القضايا الطارئة. بل يحمل طيّه القواعد الأساسية لشكل الدولة (جمهورية، مملكة، إمارة) ونظام الحكم (برلماني، رئاسي، ملكي، مختلط) وكيفية تشكيل الحكومة وصلاحيات الهيئات المدنية والعسكرية، والحدود الفاصلة والخيوط الواصلة بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية، وواجبات الأفراد والجماعات وحقوقهم الأساسية وضمانات تطبيقها. ومن ثمّة، الدستور مدوّنة توجيهية عامّة، لا تشمل كلّ شيء، بل تفهم في كلّيتها. والملاحظ في تونس منذ بلورة الدستور التوافقي الجديد (2014) أنّ النخب السياسية عموما، والرئاسات الثلاث خصوصا، تتشابك على فهمه، وتتعارض في تمثلات تنزيله في الواقع، وكلّ طرفٍ يدّعي أنّه يمتلك حقيقة الدستور. وتجلّى ذلك من خلال التنازع حول مفهوم الشخصية الأقدر لتولّي رئاسة الحكومة، وحول طريقة تشاور رئيس الجمهورية مع الأحزاب في هذا الشأن، أكانت عبر المراسلات التقليدية أم عبر التحاور المباشر.

لا ينصّ الدستور التونسي على مركزة الصلاحيات عند طرف واحد. بل يحرص على توزيع المهامّ بين المؤسسات السيادية الثلاث، وعلى الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية

وقد احتدم النزاع، أخيرا، بشأن مدى دستورية عرض رئيس الحكومة، هشام المشيشي، التحوير (التعديل) الوزاري على البرلمان، لنيل تزكيته الوزراء الجدد. والحال أنّ الأمر بديهي، باعتبار أنّ الحكومة مسؤولة أمام البرلمان، وهو من يراقبها ويسائلها، وهو المخوّل لمنحها الثقة أو سحبها منها. وبلغ الأمر بعض أنصار الرئيس قيس سعيّد درجة تفويضه ليحتكر تأويل الدستور، والحال أنّه مطالَبٌ باحترام الدستور، لا باحتكار تأويله. فهذا تفويضٌ غير مشروع، يفتح الباب لاستعادة الحكم الأحادي. ومن ثمّة، فبدل الالتزام بروح الدستور واللقاء عند فصوله الجامعة، والعمل على تطبيق محامله التقدّمية، يحاول بعضهم تنظيم انقلاب ناعم على الدستور، ويحمّله آخرون ما لا يُحتمل، ويبحث غيرهم عن نواقص الدستور لتعديله على أهوائهم، وإطالته قدر الإمكان. والواقع أنّ الفائدة ليست في طول الدساتير، بل في تكامل فصولها وتنافذها. وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ الدستور الأميركي من أقصر الدساتير (7 مواد أساسية) وأعرقها في العالم (1789). ومع ذلك هو المرجع في إدارة إحدى أكبر الدول، ولم تَشُبْه تعديلات كثيرة منذ ظهوره، ويتمّ الاحتكام عند التباين في تأويله أو عند التنازع بين الهيئات السيادية في فهمه إلى المحكمة الدستورية العليا لتفصل في المسائل الخلافية. لذلك، الحاجة أكيدة في سياق تونسي لإحداث المحكمة الدستورية لوضع حدّ لظاهرة التهافت على الدستور، والتباين الحاد في تمثّل محامله من الهيئات السيادية الحاكمة.
لا ينصّ الدستور التونسي الحالي على مركزة الصلاحيات عند طرف واحد. بل يحرص على توزيع المهامّ بين المؤسسات السيادية الثلاث المذكورة، وعلى الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. والقصد ضمان هامش من الاستقلالية وتحقيق الرقابة المتبادلة بين مؤسسات الدولة الحيوية، حتّى لا ينفرد طرف بالحكم ويسود البلاد وحده. لذلك منح الدستور البرلمان سلطة سنّ التشريعات والقوانين، أو إلغائها أو تنقيحها والتصديق على الاتفاقيات الدولية والخارجية التي يبرمها ممثلو السلطة التنفيذية. وتعتبر الحكومة مسؤولة أمام مجلس نوّاب الشعب، ومن صلاحياته مراقبتها، ومساءلتها ومنحها الثقة أو سحبها منها. فيما "يؤدّي رئيس الجمهورية المنتخب اليمين أمام مجلس نواب الشعب"، ليُباشر مهامّه (الفصل 76)، و"يتولى تمثيل الدولة، ويختص بضبط السياسات العامة في مجالات الدفاع والعلاقات الخارجية والأمن القومي المتعلق بحماية الدولة والتراب الوطني من التهديدات الداخلية والخارجية وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة". (الفصل77). "ويختم رئيس الجمهورية القوانين ويأذن بنشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية" (الفصل 81). و"يمكن لأغلبية أعضاء مجلس نواب الشعب المبادرة بلائحة معلّلة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ويوافق عليها المجلس بأغلبية الثلثين من أعضائه. وفي هذه الصورة تقع الإحالة إلى المحكمة الدستورية للبت في ذلك بأغلبية الثلثين من أعضائها. ولا يمكن للمحكمة الدستورية أن تحكم في صورة الإدانة إلا بالعزل". (الفصل 88). أمّا رئيس الحكومة فيقود الفريق الحكومي، "ويضبط السياسة العامة للدولة. من صلاحيته إنشاء وحذف الوزارات، وإقالة الوزراء وذلك بالتشاور مع رئيس الجمهورية فيما يخص وزيري الدفاع والخارجية. كذلك يمكنه إحداث أو تعديل أو حذف المؤسسات والمنشآت العمومية والمصالح الإدارية. ويتصرف رئيس الحكومة في الإدارة، ويبرم الاتفاقيات الدولية ذات الصبغة الفنية (...) وكل وزير يضبط سياسة وزارته بالتماشي مع السياسة العامة للحكومة" (الفصل71).

قدّم الفخفاخ استقالته إلى رئيس الدولة، حتّى يمنح الأخير فرصة تعيين رئيس حكومة جديد غير متحزّب وموال له

ولكن واقع الممارسة السياسية يُخبر بحدوث تنازع بين الرئاسات الثلاث على الصلاحيات من حين إلى آخر، فقد أشار الرئيس قيس سعيّد إلى محاولة رئيس البرلمان، راشد الغنوشي، السطو على مهامّه في مجال العلاقات الخارجية، وأكّد أنّه الممثّل الأوّل لتونس في المحافل الدولية. فيما تعلّل الغنوشي بأنّه يروّج الدبلوماسية الشعبية في ظلّ محدودية أداء الدبلوماسية الرسمية. واغتنم الرئيس سعيّد فشل حركة النهضة، الحزب الأوّل في مجلس النواب في تشكيل حكومةٍ تحظى بثقة الأغلبية البرلمانية، فعيّن "حكومة الرئيس الأولى" بقيادة إلياس الفخفاخ و"حكومة الرئيس الثانية" بقيادة هشام المشيشي، وكلاهما من خارج الأحزاب الممثلة في البرلمان. ولم يقف دور رئيس الجمهورية عند اختيار الشخصية الأقدر لرئاسة الحكومة وهو ما ينصّ عليه الدستور. بل تجاوز ذلك، بحسب مراقبين، إلى التحكّم في تشكيلة الحكومة ورئيسها ومصيرها. وقدّم الفخفاخ استقالته إلى رئيس الدولة، حتّى يمنح الأخير فرصة تعيين رئيس حكومة جديد غير متحزّب وموال له. وكان أن عيّن رئيس الجمهورية هشام المشيشي رئيسا للحكومة (25 يوليو/ تموز 2020) وهو مستشاره الأوّل، المكلف بالشؤون القانونية، ووزير الداخلية في حكومة الفخفاخ. وفرض عليه، بحسب ملاحظين، مجموعة من الوزراء، وألزمه بعدم القيام بأيّ تحوير إلاّ بمراجعته. ويبدو، بحسب تقارير متواترة، أنّ ممارسة المشيشي حقّه الدستوري في إقالة بعض الوزراء بعد تقييم أدائهم (الثقافة، الداخلية ..) وإقدامه على إجراء تعديل وزاري (شمل11 حقيبة) وحاز ثقة كبيرة في البرلمان لم يرُق لرئيس الجمهورية الذي رأى في ذلك "خيانة للعهد"، واستهدافا لوزراء محسوبين عليه، ومحاولة لتنصيب وزراء جدد على صلة بالحزام السياسي الداعم لحكومة المشيشي (النهضة، قلب تونس، ائتلاف الكرامة، كتلة الإصلاح). ومن ثمّة تحوّلت معركة الصلاحيات إلى أزمة حادّة بين رأسي السلطة التنفيذية. وجلّى ذلك امتناع رئيس الجمهورية عن قبول الوزراء الجدد لأداء اليمين أمامه ومباشرة مهامّهم. وقبول اليمين تكليف دستوري، فوري مقيّد، يندرج ضمن واجبات الرئيس بحسب قانونيين.

أراد رئيس الجمهورية توسيع صلاحياته وتمديد نفوذه على الحكومة. لكنّه لم يجد التجاوب المطلوب من المشيشي فاتسعت الفجوة

وتعلّل رئيس الجمهورية بأنّ بعض الوزراء (لم يسمّهم علنا) تحوم حولهم شبهات فساد، وخيّر المشيشي بين الاستقالة أو إقالتهم. والحال أنّ الحكم بفساد وزير ما ليس من اختصاص رئيس الجمهورية، ولا من مشمولات وزارة الداخلية. بل هو اختصاص السلطة القضائية حصْرا. والمرجّح، بحسب محلّلين، أنّ رئيس الجمهورية أراد توسيع صلاحياته وتمديد نفوذه على الحكومة. لكنّه لم يجد التجاوب المطلوب من هشام المشيشي في هذا الشأن. ونتيجة ذلك، اتسعت الفجوة بين الطرفين. وظلّ التحوير (التعديل) الوزاري معلّقا. وكان في الوسع حسم هذا النزاع، لو تمّ التعجيل بتشكيل المحكمة الدستورية التي كان يُفترض إحداثها منذ سنة 2015.
يبعث استمرار الأزمة برسائل سلبية إلى الداخل والخارج، ويزيد من نفور الناس من السياسيين، وتيئيسهم من الديمقراطية ولسان جلّهم يقول: "يا للعجب، انتخبناهم ليحلّوا مشاكلنا فإذا هم يتنازعون على الحكم ويطلبون منّا حلّ مشاكلهم". ولا يساعد المشهد المأزوم على تحقيق الاستقرار وضمان النماء، والالتفات إلى مشاغل التونسيين الحقيقية (مكافحة الوباء، الغلاء، البطالة، الفقر ..)، ولا على استقطاب المستثمرين، ولا يشجّع الصناديق المانحة على مزيد التعاون مع تونس في ظلّ وضع سياسي/ اقتصادي/ صحّي صعب.
ختاما، تحتاج تونس إلى عقول قيادية، تحاورية، توافقية، رشيدة، ميّالة إلى تحكيم منطق المشاركة لا المغالبة، والمصالحة لا المكابرة، والمواءمة لا المكاسرة بين أطراف هيئة الحكم خصوصا، ومكوّنات المجتمع السياسي عموما تحقيقا للمصلحة العامّة.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.