في تلك القدوة التي تولّد الاستجابة
مشهدان أثّرا فيّ، كثيراً، الأسبوع الجاري، أوّلهما يجعلك تفكّر في فنّ القيادة وأسرارها، والثاني دفعني إلى الإصرار بأنّ التكرار لفن التّصنُّع ومحاولة مناقضة مشاهد القيادة لا يُحسنه إلا من هو في مستوى عروس من عرائس الكراكوز التي كانت، إلى أيام قريبة، تُضحك الصغار وتصنع مشهد الفرح البريء. أريد الحديث، هنا، عن أبي عبيدة وباسم يوسف باعتبارهما يمثّلان، حقّاً، المشهدين المتناقضين.
بداية، قبل الانطلاق في تحليل شخصية بطلي المشهدين، يجب الحديث عن ثنائية التّحدّي والاستجابة التّي جعلها المؤرّخ البريطاني، أرنولد توينبي، محرّكة للحضارة، حيث إنّ التّحدّي يصنع الفعل، وتكون الاستجابة مقاربة للوصول إلى التّغيير، وهي ثنائية تُغرس من التنشئة في أعماق شخصيةٍ من يكون مالكاً لفنّ القيادة. ويسعى، من خلالها وبها، إلى تغيير واقعه، حتّى وإن عاكسته الظروف، ومالت الوقائع كلها إلى إقناعه بعراقيل مستحيلة التجاوز.
في حين، يتمتّع أبو عبيدة بالحضور التلقائي وعفويّة الخطاب في انسياب للكلمات تراها طبيعية، وتلمس شغاف القلب وصولاً إلى تحريك المشاعر، جاء خطاب باسم يوسف عاكسا شخصية تريد صنع اللّقطة واقتطاف ثمار الحضور المفاجئ الذي صنع، أوّل مرّة، بقليل من العفوية ومن دون إرادة، مشهدا مناقضا لسرديّة إعلام غربي يبغض الفلسطينيين، ليعود، بعد تحضير وكتابة سيناريو العرض بتفاصيل المشهد المسرحي من مقدّمة، وعقدة العرض ثمّ خاتمته، وربّما، بل يقينا، يكون في اتفاق تام مع الصحافي البريطاني الذي كان هدفه، أولا وأخيرا، محو السّردية الأولىن وتسجيل نفاق باسم يوسف خدمةً لسردية بقاء اللقطة الغالبة التي تحكي عن حقّ الصّهاينة ودفاعهم الشّرعي عن أنفسهم في مقابلة وحشية، بل إرهاب الفلسطيني، مدنيا كان أم من حركة حماس والمقاومة.
ما يجعل خطاب باسم يوسف غير مقنع أنّه كان مقدّما لعرض فكاهي في إطار مشروع انقلابي بخلفية سياسية
من ناحية المضمون، يأتي خطاب أبي عبيدة في سياق إثبات سرديّة المقاوم صاحب قضيّة نشأ على أنّها وجودية، بالنّسبة له ولشعبه بل وللأمّة كلّها، وفي إطارٍ يلخّص مسار الخطوات الثّابتة التّي تُبيّن أنّ الفعل جرى التّحضير له بتفاصيله من لحظات الخروج الإعلامي إلى مضمون الكلمات/ البيانات المُعلنة عن إصرار صاحب الحقّ في أنّ ما قام به مشروع باستراتيجية، فاعلين وأهداف مرحليّة ونهائيّة من دون الاكتراث بالمُساندات (صلبة وناعمة، أسلحة وأرمادا إعلامية تغطّي فظائع الجرائم) التّي قد تعاكس ذلك المخطّط، مع إبراز التجهيز لكل التطوّرات في إطار التصعيد، ما يبيّن أن المعركة فاصلة، في وجدانه، سواء، من خلال طوفان الأقصى، أو من خلال ما سيأتي من معارك يُحضّر لها بعد تحرير الأسرى وفكّ/ رفع الحصار عن غـزة وفلسطين، ولو، مرحلياً، الآن.
أمّا باسم يوسف، فانّ ما يجعل خطابه غير مقنع أنه كان مقدّما لعرض فكاهي في إطار مشروع انقلابي بخلفية سياسية، جعلت من مضمون كلماته نفاقاً لا يمكن تصديق ما بداخله من أفكار معلّبة بسيناريو هدفه قتل التّغيير ووأد تجربة صنع الاستجابة، في إشارة إلى ما قام به من دور، في عام 2013، لإطاحة الرئيس محمد مرسي، رحمه الله.
بالعودة إلى اللقاء الثاني له مع الصحافي البريطاني، يُلاحظ أنّ الطرفين (باسم والصحافي) متفقان على أنّ العرض، هذه المرّة، محضّر للاستفادة من "ترند"، أو رواج المشهد الأوّل. ولكن، هذه المرّة، علم باسم أم لم يعلم، سياق اللقاء الثاني هو ترسيخ لسردية أن لا عفوية أو لا حقيقة في عفوية اللقاء الأول، ذلك أنّ الكلمات يكون لها وقع عندما تبقى بدون مشروع أو هدف من إلقائها، أي من الناحية المادية والشهرة.
أبو عبيدة قائد بالسليقة وظهوره الإعلامي في سياق إكمال صورة المقاومة وتسجيل حضور بمشروع وهدف ينطلق من حفظ لكلّ تفاصيل مشهد التحدي
أمّا الآن، بالنسبة للقاء الثاني، يكفي مشاهدته لمعرفة أنّ باسم جهّز نفسه لقول الحقيقة ومضمونها أنّ كلماتِه جاءت في إطار الفكاهة السّوداء، على الطريقة البريطانية، لكن من دون أن يكون لها مشروع في مناقضة فعلية للسّردية الإعلامية الأخرى، ولعلّ تقديم باسم قنّينة الزيت للصحافي، في بداية اللقاء، كانت الإشارة الأولى إلى سياق المشاهد والكلمات التي ستُقال في اللقاء، بل إشارة إلى أنّ العفوية الأولى لم يكن المقصود منها الظُّهور لتبرئة ساحة المقاومة أو لمناقضة السّردية الإعلامية الغربية، بل، فقط، لتسجيل حضور فكاهي وإعلامي بكلماتٍ تكون قد أخطأت مسارها، أي أنّ باسم لا يُبرز نفسه صاحب قضيّة، وهو ما أصرّ الصحافي على إبرازه بتجهيز نفسه للقاء الثاني وسافر، من أجله، إلى أميركا، لمقابلة باسم.
تتناقض، بالنتيجة، بخلفية ثنائية التحدّي والاستجابة، سرديّتا أبي عبيدة وباسم في أن الأوّل قائد بالسليقة وظهوره الإعلامي في سياق إكمال صورة المقاومة وتسجيل حضور بمشروع وهدف ينطلق من حفظ، عن ظهر قلب، لكلّ تفاصيل مشهد التحدّي ومعرفة، تامة وكاملة، بتفاصيل مسار الاستجابة، في حين أنّ إرادة الاستفادة من "الترند" الحضور المتصنّع مع خلفية الحفاظ على رداءة الأداء. ويقينا، يعرف باسم يوسف أنّ ما قام به مجرّد ترديد للسردية الإعلامية الأخرى.
مقاربتان لصنع المشهد، متناقضتان لكنهما موجودتان يجب الوعي برفعة الأولى وتفاهة الأخرى، ليكتمل وعي... التحدي والاستجابة، حقاً
قد تكون المقابلة بين أبي عبيدة وباسم يوسف غير لائقة، حقيقة، بالنظر إلى الموقف الذي نعيشه ومفصلية اللحظة، بل ووجودية المعركة التي تقودها المقاومة الفلسطينية، من ناحية طبيعتها. ولكن، بسبب أهمّية الصّوت والصُّورة والحضور الإعلامي، بكلّ أشكاله، كان يجب تسجيل فن القيادة لدى أبي عبيدة، والتركيز على تفاصيل الركاكة عند باسم وهو، للحقيقة، عمق المشهد الإعلامي الذّي نراه، هذه الأيام، في عزّ المعركة وطوفان السرديات المتناقضة، حيث هناك من يتشجّع بعفوية أبي عبيدة والمقاومة ليردّد سرديّة الحقّ. وهناك، عكس ذلك، من يخاف على بريستيج أو مكانة، بل وحضور قد يفقده أو اتهام بمعاداة السامية سيلاحقه أينما حلّ وارتحل.
تلك هي المعركة الأخرى التّي تخوضها المقاومة، وتخوضها الأمّة معها ضدّ طوفان آخر من آلة إعلامية ضخمة تردّد الأكاذيب وتدافع عن الباطل، مستخدمة الخوارزميات، والذّكاء الاصطناعي لتعزيز صورة الكذب، بل الأكاذيب، وبلاتوهات بمضمون مفاهيم وأفكار هدّامة، حقّاً، تحتاج إلى أمثال أبي عبيدة، ووائل الدحدوح، وذاكرة عفوية شيرين أبو عاقلة، وغيرهم من أبطال الكلمة والمقاومة من أرض المعركة، وهي المعركة الأخرى للتحدّي والاستجابة يخوضها أبو عبيدة، ويسجّل فيها حضور صنع القيادة، ويفشل في خوضها باسم.
إنّهما مقاربتان لصنع المشهد، متناقضتان لكنهما موجودتان يجب الوعي برفعة الأولى وتفاهة الأخرى، ليكتمل وعي... التحدّي والاستجابة، حقاً.