في تقلّبات الدور التركي

07 فبراير 2022
+ الخط -

تبدو الاستدارة التركية الجديدة نحو المصالح "الأوروبية" الاقتصادية، عبر البوابة الأميركية ونافذتها إسرائيل لافتة، بعد طول خلافات، ناجمة عن تموضع تركي في خانة الاصطفافات مع روسيا سنوات عديدة صنعتها الحرب في سورية، وتقاطع مصالح تركيا في مساحات واسعة مع روسيا، الدولة الحليفة للنظام السوري من جهة، ومع إيران عقل محور المقاومة (سورية - إيران - حزب الله) المصطنع ضد إسرائيل من جهة مقابلة. على ذلك، يسمح التطور، أو التحول الجديد، بالقول إنّ أدواراً جديدة يمثلها التعاون الاقتصادي المعلَن استباقياً لزيارة رئيس الكيان الإسرائيلي، إسحق هيرتزوغ، لتركيا منتصف الشهر المقبل (مارس/ آذار)، بإمكانية دخول تركيا في مشروع خط أنابيب الغاز في شرق البحر المتوسط، لتصديره إلى أوروبا الذي عارضته سابقاً وعرقتله.
التقت مصالح روسيا مع مصالح تركيا في معارضة مشروع تصدير الغاز "الإسرائيلي" إلى أوروبا، إذ رغبت موسكو في تعطيل المشروع، ليبقى تصدير الغاز، وهو أحد مصادر الطاقة الرئيسة في أوروبا، من أوراق الضغط في ملف مفاوضاتها مع الدول الأوروبية وحليفتها الولايات المتحدة، بينما كان رفض تركيا المشروع يقع ضمن مساعي حفاظها على مصالحها الاقتصادية في منطقة نفوذها البحري، ما جعلها تسعى، بالتزامن مع إعلان المشروع، لتعزيز سيطرتها على أوسع مساحات مائية شرقي البحر المتوسط ، سواء من جهة ليبيا أو اليونان وقبرص، ما يمكّنها من تعطيل الاستفادة من طرقاته، من دون أن تكون أحد المستفيدين منها، أي إنّ التحوّل الآن يعني أنها، من جهةٍ، حققت غايتها شريكاً، ومن جهة أخرى، أنّها بدأت عملية إعادة تموضع لن تكون على مزاج الشريك الروسي الغارق في ملف حربي على الحدود الأوروبية.

التنقلات المختلفة والنوعية للسياسة الخارجية التركية بشقيها، الدبلوماسي والعسكري، كان يقابلها موقف متماسك وقوي من إيران وروسيا

ليست هي المرة الأولى التي تعيد تركيا النظر في سياساتها وتحالفاتها، ولعلّ التجربة السورية معها واضحة، وكاشفة، ومتعدّدة المراحل، فمن تعاملها مع الدولة السورية عدواً قبل عام 1998، أي قبل توقيع اتفاقية أضنة، وإبعاد نظام الأسد زعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، من سورية، إلى حليفة وصديقة لهذا النظام، بتحولاته من حكم الأب حافظ الأسد إلى حكم الابن بشار الأسد، ثم بتوافق موقفها مع الثورة السورية وتزّعمها الحلف الدولي - العربي المضاد للنظام السوري، ورعاية خطوات المعارضة التصعيدية من ثورة سلمية إلى تشجيع على المواجهة ثم تسليح المعارضين، وبعدها زجّ فصائل مسلحة أيديولوجية في المعارك ضد قوات النظام، وإلغاء أدوار الجيش الحر الذي تشكّل في أعقاب المواجهات مع النظام، وحقق قبولاً شعبياً واسعاً، ثم إغراق سورية بالمتطوعين للجهاد عبر منافذها الحدودية، إلى شريك دولي في حرب الولايات المتحدة ضد الإرهاب في سورية، وجديدها تسهيل حركة القوات الأميركية لحصار زعيم "داعش" أبو إبراهيم القرشي، وقتله.
هذه التنقلات المختلفة والنوعية للسياسة الخارجية التركية بشقيها، الدبلوماسي والعسكري، كان يقابلها موقف متماسك وقوي من إيران وروسيا، في كلّ القضايا الدولية والإقليمية، وضمنها أساساً دعم النظام السوري في مواجهة معارضته بنوعيها، السلمي والمسلح، ما يعني أنّ الحليف الذي تعوّل عليه "كيانات المعارضة السورية" يتصرّف وفق مصالحه، وتتغير مواقفه تبعاً لمتغيرات خارجية وداخلية، في توضيحٍ لفكرة أنّ تركيا ليست جمعية خيرية، وهي لا تتبرّع بمواقفها وتسيّر جيوشها تعويلاً على مشاعر إنسانية، بل عملاً بما تقتضيه عليها وظيفتها في خدمة مصالح شعبها أو حكومتها. ويفسّر هذا الفهم للسياسة التركية وتحولاتها، بغضّ النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه، واقع المعارضة السورية وانزياحات مواقفها، وتعدّد مشاريعها وطروحاتها وخطوطها الحمر، وصولاً إلى تغيير أنظمة كياناتها الداخلية تحت شعارات الإصلاح، أو إنشاء محاور تفاوضية دخيلة على مسار مفاوضات جنيف المشرع بقرارات أممية وبيانات دولية.

تركيا أرضت مطامعها، وحقّقت طموحاتها، بتعزيز مكانتها في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وعلى المستوى الدولي، على حساب روسيا ومغامراتها

ويأتي في السياق ذاته سير المعارضة جنباً إلى جنب مع حليفي النظام في تطبيق حلوله للصراع السوري، سواء عبر مسار أستانة الذي انتزعت فيه روسيا وإيران اتفاق خفض التصعيد، وقسمت سورية الخارجة عن سلطة الأسد إلى أربع مناطق، استعاد النظام بعدها ثلاثاً منها برعاية روسيا، إلى مسار سوتشي الذي قزّم القضية السورية إلى لجنة دستورية لم تنجز شيئاً منذ تأسيسها عام 2019.
يُستنتج من ذلك كله أنّ التحوّل التركي الحاصل لجهة تعزيز العلاقة مع الطرف الإسرائيلي واستعادة النشاط الاقتصادي المشترك عبر خط الغاز الذي جاملت فيه الولايات المتحدة الأميركية تركيا حين عارضته، يوجّه الأنظار مجدّداً إلى أكثر من دور تركي في اقتصاد أوروبا المستقبلي، بل هو قد يفيد بإعادة إحياء دورها الفاعل في تعطيل أدوار روسيا في سورية أيضاً، إذ قد يعني ذلك حاجة أميركية لتوقيف عدّاد الزمن في الملف السوري، بينما يخرج الدخان الأبيض من مدخنة مفاوضات فيينا بين الجانبين، الأميركي والإيراني، الذي قد يعني أيضاً إعادة الاعتبار لإيران في منطقة الشرق الأوسط. وربما هو ما يفسر الصمتين، الأميركي والتركي، على انتشار قوات إيرانية وشيعية في المناطق الحدودية مع العراق، وإلى أن تستوضح أميركا ردّ الفعل الروسي على خطتها الأمنية الخطية في أوروبا التي تدرسها روسيا، وترسم من خلالها مستقبلها القادم في القارّة الأوروبية.
لكلّ مستجدّ اقتصادي أو عسكري في العالم دلالاته السياسية والاستراتيجية. وضمن ذلك يمكن ملاحظة كيف عزّزت الولايات المتحدة، على خلفية الأزمة الأوكرانية، دورها قوة عظمى، ومن خلالها أيضاً عُزِّزَت وحدة الاتحاد الأوروبي، وفوق هذا وذاك شدّت من عصب حلف الناتو، واتضحت من جديد مكانة تركيا العضو بالغ الأهمية فيه ودورها، ما يعني أنّ تركيا أرضت مطامعها، وحقّقت طموحاتها، بتعزيز مكانتها في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وعلى المستوى الدولي، على حساب روسيا ومغامراتها، وضمن ذلك يأتي استئناف علاقتها مع إسرائيل وتعزيزها من بوابة الاقتصاد العابر للقارّات، في الوقت الذي نشهد فيه تراجعاً في مكانة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، دولياً وأوروبياً، وفي عقر اتفاقاته الاقتصادية الكبرى "الغاز"، ما يعيدنا إلى القضية السورية وفشل مراهناتنا على مواقف الدول، ومنها تركيا، بعيداً عن دراسة مصالحها وتقاطعاتها الدولية مع مصالح المعارضة من عدمها.

930EB9D8-8BB0-4CDA-8954-FE630C4A380F
سميرة المسالمة

كاتبة وصحافية سورية، رئيسة تحرير جريدة تشرين سابقاً، نائب رئيس الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية