في تفكيك مقولة "المغلوب مولع بتقليد الغالب"

13 مايو 2022

(نجا المهداوي)

+ الخط -

عمل المقال السابق للكاتب في "العربي الجديد" (29/4/2022) على تفكيك مقولة "الناس على دين ملوكهم"، وهو أمر ورد عند ابن خلدون وغيره، وأكّد المقال أن بعضهم ربط بين تلك المقولة وأخرى وردت عند ابن خلدون، جعلها في مقام القانون الدائم والسُّنة الماضية، والقاعدة المضطردة التي لا تتخلف. والحقيقة أن هذه المقولة عند العلامة ابن خلدون "المغلوب مولعٌ أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده"؛ أشارت تلك القاعدة، ضمن هذه العلاقة، إلى مجموعة من العناصر، أولها الغالب وصفاته، والمغلوب ونعوته، وحال المغلوبية والشروط التي تتحكّم في هذه العلاقة، والمجالات التي تتمثل فيها، والتي أوردها ابن خلدون، على سبيل المثال، في فئاتٍ متعدّدة للغالب وأشكاله. وفي تحليل تلك المقولة الخلدونية، ربط بعضهم بينها وبين الظاهرة الاستبدادية تبريرا للاستبداد واستمرارية حكم المستبدّ. والنظر العميق والدقيق إلى تلك المقولة يشير إلى العلاقة بين الغالب والمغلوب والشروط التي تتعلق بالانقياد وعموم الاقتداء في تفسير حال المغلوبية تلك. وعلى الرغم من أن ابن خلدون أورد في عنوان هذا الفصل كلمة "أبدا"، إلا أن هذه الأبدية إنما تتعلق بالسّنة الشرطية، والتي تؤكّد على الشرط الأكبر في حال المغلوبية، وهو "الولع". وهو ما يؤكد أن ابن خلدون يوقف هذه الحال في التأثير على ذلك السبب الجوهري، المتمثل في القابليات المتعلقة في كل السلوكيات التي تتعلق بهذا "الولع"، فجعل ذلك قانونا لا يتعلق فحسب بعلاقة السلطة والرعية، وإنما أيضا يرتبط بالأمم في حال صارت تلك الأمم بالاستعباد آلةً لسواها وعالة عليهم.

يعود تفسير انقياد المغلوب للغالب إلى الاعتقاد والإدراك بالكمال للغالب بما يؤدّي إلى تعظيم الغالب في نفس المغلوب

ومن هنا، يعود هذا التفسير لانقياد المغلوب للغالب إلى ذلك الاعتقاد والإدراك بالكمال للغالب بما يؤدّي إلى تعظيم الغالب في نفس المغلوب. وبذلك يعبّر عما يمكن أن نسميه الظاهرة والقابلية للظاهرة؛ أي الغلبة والقابلية للغلبة، والتي تنتج، كما يؤكد ابن خلدون، عن شعور بالنقص عند المغلوب، وهو ما يؤدّي إلى السبب في ذلك الإدراك والسلوك الذي يتخذ أشكالا من الاقتداء. ومن هنا، كانت المحصلة التي أكد عليها ابن خلدون كسّنة ماضية "أن المغلوب مولعٌ أبداً بالاقتداء بالغالب"، وضرب بذلك أمثلة على حالاتٍ من الاقتداء من العوائد والزي والشعار وسائر أحواله بالجملة. وأبرز في هذا جملة من العلاقات التي يمكن أن ترتبط بمجال التربية الجماعية، وما يمكن أن تتركه من آثار على النفس الجمعية في ما سماه غوستاف لوبون "روح الشعوب والجماهير"، فأشار إلى أن تلك العلاقة وما شابهها في علاقات الأبناء بالآباء، والمتعلمين بمعلميهم، ثم أردف ذلك بالعامة على دين الملك.
ومن عمق تحليل ابن خلدون في أسباب الاقتداء "أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك، واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء، أو لما تراه والله أعلم؛ من أن غلب الغالب لها ليس بعصبيةٍ ولا قوة بأسٍ إنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب، وهذا راجع للأول ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم. وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم، حتى أنه إذا كانت أمة تجاور أخرى، ولها الغلب عليها، فيسري إليهم من هذا التشبه والاقتداء حظ كبير كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة فإنك تجدهم يتشبهون بهم في ملابسهم وشاراتهم والكثير من عوائدهم وأحوالهم حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء والأمر لله، وتأمل في هذا سر قولهم العامة على دين الملك فإنه من بابه إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به، لاعتقاد الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم والمتعلمين بمعلميهم".

يعبّر ابن خلدون عن حالة ناقدة وبعمق للسلوك الجمعي الذي يشكل فحوى القابليات باعتقاد النفس الخاطئ بالاتصاف بالكمال

ومن دقيق تحليله أيضا أن يعبر في ذلك بمفهوم النفس "في إطار ما تعتقده النفس البشرية كجنس وكجماعة"، وأن يستخدم أيضا مفهوم ”الغلط والتغالط“ عند التحدّث عن اعتقاد النفس، مشيرا إلى أن هذا الاعتقاد (بالكمال) ليس صحيحا، وهو أمرٌ غاية في الأهمية، في سياق تحليل النفس الجماعية وأحوال القابلية فيها والشرط الأساسي المتعلق بـ "الولع" كحال جماعية. ومن هنا، يعبّر ابن خلدون عن حالة ناقدة وبعمق لهذا السلوك الجمعي الذي يشكل فحوى هذه القابليات باعتقاد النفس الخاطئ بالاتصاف بالكمال، وهو ما أكّده "أن النفس تستخدم الفعل الذي تسعى إلى تحقيقه كبرهان لصحة اعتقادها! أي تبريرا لهذا الإدراك. ومن جميل ما عبّر به ابن خلدون في دقة لوصف هذه الحال قوله: "وهذه طريقة تخدع بها النفس نفسها، بأن الانقياد ليس أمرا طبيعيا هي جبلت عليه، وإنما لكمال الغالب"، فهنا نرى أن اعتقاد النفس يدفعها إلى تجنيد معلومة الانقياد بما يلائم هدفها في تبرير الخضوع والاستعباد، وهو اعتقادها لكمال الغالب. ولعل هذا يظهر في بعض خطاب العامة عن مستبدّيهم من أنهم هم الذين أنقذوا البلاد والعباد من فتنةٍ كبرى مثلا؛ أو أنه المُخلِّص المنتظر، وأنه لولا استبدادهم لانفرط العقد، وهو ما يجعل هؤلاء يحاولون إضفاء صفات الكمال على من يستبدّ بهم، فالغالب والمغلوب والقابلية إنما يشكل ما يمكن تسميته قانون السلطة، بحيث يشمل هذا المعنى الواسع كل من له سلطة أو قوة تحكم وسيطرة على الآخر، حتى لو كان الأمر هنا يتخذ شكل "الغلبة الداخلية" "السلطة ورعاياها" أو "الغلبة الخارجية" "تابعيها وزبانيتها".

مفهوم التنشئة والتربية قد يتخذ مسالك من القهر الاجتماعي والعسف والاستبداد السياسي

ومن هنا، فإن استعراض ابن خلدون هذه العلاقة كمنظومة مفاهيم تحتوي على كل المفاهيم الفرعية، والنظر إلى مفهوم "الولع" الذي مقرّه النفس الإنسانية والجماعية، بما يترتب على ذلك من الانقياد والاقتداء والاستيلاء والتشبّه. ولعل ذلك يشير إلى ما يمكن تسميتها صناعة "الولع" والقابليات المتعلقة به والعقل الجمعي والحالة الثقافية التي يشكل الولع شرطا فيها ضمن المخاتلة وخداع الذات أمرا حتميا ومفسّرا استمرار غلبة الغالب وخضوع المغلوب، وهي أمورٌ تتعلق بالسياقات التي ترتبط بعلم النفس الاجتماعي ودراسات الوعي الجمعي وغسيل المخ الجماعي وعمليات التشكيل الثقافي والقيمي، ومن ثم دفع الجماعة في اتجاه سلوكٍ بعينه، باستغلال "القابليات" والسياقات؛ كذا مفهوم التنشئة والتربية الذي قد يتخذ مسالك من القهر الاجتماعي والعسف والاستبداد السياسي.
وعلى الرغم من أن لتلك المقولة تفسيرات كبرى أخرى، لا تتوقف عند حد الظاهرة الاستبدادية، وتشكيل السياقات القابلة لها، فإن الأمر قد يطول بنا لو أردنا استقصاء تلك المقولة الخلدونية وآثارها، خصوصا ما يتعلق بتمثلاتها في الواقع.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".