في تطبيع العلاقات بين السعودية والكيان الصهيوني
نشرت وسائل الإعلام العالمية، في الأسابيع القليلة الماضية، تقارير تؤكّد حجم الاهتمام الذي توليه إدارة الرئيس الأميركي بايدن لموضوع تطبيع العلاقات بين السعودية وإسرائيل، ورغبتها في إنجاز هذا الهدف قبل نهاية شهر مارس/ آذار المقبل. عوامل كثيرة تبرّر هذه العجلة: أولها، حرص الرئيس بايدن، الذي يحلو له تعريف نفسه بأنه "صهيوني" رغم أنه ليس يهوديا، على تقديم هديةٍ ثمينة لإسرائيل قبيل انتخابات الرئاسة الأميركية المقرر عقدها في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام المقبل، والتي يأمل أن يحصل فيها على دعم قوي من الجالية اليهودية الأميركية. وثانيها، اعتقاده أن التطبيع الرسمي للعلاقات بين السعودية وإسرائيل سوف يكون أقصر الطرق وأنسبها، في الوقت نفسه، لعرقلة اندفاع السعودية نحو الاتجاه شرقا وكبح جماح مساعيها الرامية إلى رفع مستوى علاقاتها بكلٍّ من روسيا والصين. وثالثها، إحساسه بأن بدء مفاوضاتٍ جادّة بين إسرائيل ودولة عربية وازنة بحجم السعودية قادرٌ، في حد ذاته، على أن ينتج زخما يكفي لإقناع نتنياهو بضروة التحلّي بالمرونة اللازمة للتوصل إلى تهدئة طويلة الأمد في الصراع العربي الإسرائيلي، تتيح له التفرغ لمواجهة التحدّيات الدولية الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، وعن تصاعد الطموحات الصينية للمشاركة في قيادة النظام الدولي.
معلوم أن قنوات الاتصال بين السعودية وإسرائيل، والتي بدأت منذ سنوات، لا تزال مفتوحة وتعمل بكفاءةٍ ساعدت على تمكين الطرفين من التوصل إلى تفاهماتٍ بشأن مسائل متنوّعة تهم الطرفين، بل وسمحت باتخاذ إجراءاتٍ عديدة لدفع عملية التطبيع غير الرسمي بين البلدين. بل إن بعضهم يعتقد أنه ما كان يمكن لدول عربية لصيقة الصلة بالسعودية، كالبحرين على سبيل المثال، أن تُقدم على تطبيع علاقاتها رسميا مع إسرائيل من دون ضوءٍ سعوديٍّ أخضر. صحيحٌ أن ذلك كله جرى إنجازه إبّان فترة ولاية ترامب الذي تبنّى موقفا غاية في التشدّد من إيران، وتمكّن من عقد أوثق الصلات مع كل من السعودية وإسرائيل. وصحيح أيضا أن إدارة بايدن تبنّت سياسة خارجية مختلفة، أدّت إلى انفتاح أميركي أكبر على إيران، وبروز بعض مظاهر التوتر في العلاقات التي تربطها بكل من السعودية وإسرائيل، غير أن قنوات الاتصال بين السعودية وإسرائيل ظلت مفتوحةً، حتى بعد وصول بايدن إلى البيت الأبيض، ربما لأسبابٍ تتعلق بحرص ولي العهد السعودي محمد بن سلمان على تحفيز إسرائيل للقيام بدور ما لتلطيف أجواء العلاقة مع بايدن، وهو ما جرى بالفعل إبّان زيارة الأخير لكل من السعودية وإسرائيل صيف العام الماضي (2022)، فخلال هذه الزيارة، نجح بايدن في الحصول على موافقة السعودية على عبور بعض رحلات الطيران الإسرائيلي الأجواء السعودية. ومع ذلك، تنبغي ملاحظة أن حرص السعودية على توظيف الدور الإسرائيلي لتلطيف أجواء العلاقة المتوتّرة مع بايدن أصبح أقلّ بكثير مما كان عليه قبل التطورات التي طرأت، أخيرا، على النظام الدولي، خصوصا عقب اندلاع الحرب على الساحة الأوكرانية، فقد أتاحت التفاعلات الناجمة عن هذه الحرب فرصة فريدة أمام المملكة للانفتاح أكثر على كل من روسيا والصين، وتقليل درجة اعتمادها على الولايات المتحدة، وسمح لها بهامش أوسع للحركة والمناورة على الصعيدين، العالمي والإقليمي. فعلى الصعيد العالمي، لم تتردّد السعودية في تنسيق مواقفها مع مواقف دول مجموعة دول "أوبك +"، ومن ثم اتخذت قرارا يقضي بتخفيض إنتاجها من النفط، كي تحافظ على استقرار أسعاره العالمية، ما شكّل تحدّيا سافرا للولايات المتحدة. وعلى الصعيد الإقليمي، أقدمت السعودية على سلسلة خطوات عكست حرصها الشديد على تصفية خلافاتها العميقة والمزمنة مع إيران، وعبّرت عن رغبتها في التوصل إلى اتفاقٍ لإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة معها منذ عام 2016. الأهم أنها حرصت على إنجاز هذا الاتفاق عبر وساطة صينية، الأمر الذي لم تشعر الولايات المتحدة بأي ارتياحٍ حياله. ولا جدال في أن مجمل هذه التحولات والتفاعلات ساعد على تغيير السياق الذي تجري في إطاره العلاقات السعودية الأميركية، من ناحية، والعلاقات السعودية الإسرائيلية، من ناحية أخرى، سواء ما يتصل منه بالاتصالات السعودية الإسرائيلية المباشرة، التي ركّزت جهودها على تنشيط العلاقة بين البلدين على صعيد التطبيع غير الرسمي، أو بالجهود الأميركية التي تركّز حاليا على مساعدة السعودية وإسرائيل على التوصل إلى اتفاق رسمي، يسمح بإبرام معاهدة سلام بين البلدين. لذا، يمكن القول إن السعودية أصبحت في موقف أفضل من منظور قدرتها على مقاومة الضغوط الأميركية، ما يفسّر إقدامها، أخيرا، على الإفصاح عن شروطها لتطبيع العلاقة مع إسرائيل.
قنوات الاتصال بين السعودية وإسرائيل، والتي بدأت منذ سنوات، لا تزال مفتوحة وتعمل بكفاءةٍ ساعدت على تمكين الطرفين من التوصل إلى تفاهماتٍ بشأن مسائل متنوّعة
ذكرت تقارير صحافية عديدة، نشرت في الأسابيع القليلة الماضية، أن السعودية طرحت ثلاثة شروط لإعلان موافقتها على تطبيع علاقاتها رسميا مع إسرائيل: يتعلق الأول بضرورة تغيير إسرائيل موقفها من القضية الفلسطينية، ومن تسوية الصراع الذي ما زال محتدما مع بعض الدول العربية، خصوصا مع سورية ولبنان. لذا يبدو أن الموقف الرسمي السعودي ما زال متمسّكا بمبادرة السلام العربية التي تشترط على إسرائيل إتمام الانسحاب أولا من كل الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 1967، بما فيها هضبة الجولان السورية، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967. ويتعلق الشرطان الآخران بضرورة تغيير الولايات المتحدة موقفها من الضمانات الأمنية المطلوبة، بما في ذلك مبيعات الأسلحة، وأيضا من البرنامج النووي الذي ترغب في إقامته للأغراض السلمية. ففي ما يتعلق بالمسألة الأولى، ترغب السعودية في أن تقدّم لها الولايات المتحدة ضمانات محدّدة في حال تعرّض أمنها الوطني للتهديد، بما في ذلك الالتزام بتلبية طلباتها من كل أنواع المعدّات العسكرية المتقدّمة التي تحتاجها وترغب في شرائها. وفي ما يتعلق بالمسألة الثانية، ترغب السعودية في أن يكون لديها برنامج نووي خاص للاستخدامات السلمية، على أن تساعدها الولايات المتحدة على بنائه، أو، على الأقل، تمتنع عن القيام بأي خطوة قد تؤدّي إلى عرقلته. ولأن بعض هذه الشروط يبدو تعجيزيا، خصوصا الشرط الخاص بانسحاب إسرائيل من كل الأراضي العربية المحتلة عام 1967، فليس من الواضح بعد ما إذا كانت السعودية تطرحها سقفا تفاوضيا قابلا للتغيير، أم موقفا نهائيا غير قابل للمساومة، خصوصا أن بعض التقارير الصحافية ذكرت، أخيرا، أن الرياض لم تعد تتمسّك بتنفيذ كل بنود المبادرة العربية شرطا للتطبيع. ويكفي أن يتسم الموقف الإسرائيلي بقدر من المرونة، يسمح باستئناف مفاوضات جادّة مع السلطة الفلسطينية بشأن استكمال عملية أوسلو.
توحي شواهد كثيرة بأن السعودية ليست في عجلةٍ من أمرها لتطبيع العلاقة رسميا مع إسرائيل، وتؤكّد أنها باتت تدرك حجم المخاطر التي يمكن أن تنجم عن خطوةٍ خطيرةٍ كهذه، خصوصا بعد أن بدأت تطرح نفسها دولة مرشّحة لقيادة النظام الإقليمي العربي ككل. لذا يُفترض أن تكون قد أدركت أن من شأن خطوة كهذه أن تؤدي إلى:
أولا، توجيه طعنة للشعب الفلسطيني في ظهره، في وقت تسدّ إسرائيل كل أبواب الأمل أمامه في إقامة دولته المستقلة، فالحكومة الإسرائيلية الحالية لم تكتف بممارسة كل صنوف الجرائم والانتهاكات ضد الشعب الفلسطيني، والتي وصلت إلى حد الاعتداء على مقدّساته وتدنيسها، لكنها راحت تسرّع من وتيرة الاستيطان الذي يستهدف التهام وطنه قطعة بعد قطعة.
ذكرت تقارير صحافية أن السعودية طرحت ثلاثة شروط لإعلان موافقتها على تطبيع علاقاتها رسمياً مع إسرائيل
ثانيا، وضع عراقيل عديدة أمام إمكانية تطوير العلاقة مع إيران عقب الاتفاق الذي سمح بإعادة العلاقات الدبلوماسية معها على مستوى السفراء، وهو أمر ينطوي على مخاطر جسيمة قد تؤدّي إلى تعقيد علاقتها في الوقت نفسه بدول عربية كثيرة، في مقدمتها سورية والعراق واليمن، بل وبفصائل المقاومة الفلسطينية المسلحة التي شهدت العلاقات معها تحسّنا كبيرا في الآونة الأخيرة.
ثالثا، الانتقاص من هيبتها ومكانتها مهدا للإسلام وموطنا للحرمين الشريفين. وبالتالي، قطع الطريق على طموحاتها الإقليمية، خصوصا منها ما يتعلق بالسعي إلى قيادة النظام الإقليمي العربي في المرحلة المقبلة.
رابعا، تقليص مساحة الهامش الذي باتت تتمتع به، وأصبح يتيح لها قدرا لا بأس به من حرية الحركة والمناورة على الصعيدين الدولي والإقليمي، ما قد يسهم في إعادة تعزيز الانطباع بأن السعودية دولةٌ محكوم عليها بالدوران في الفلك الأميركي، وباتت غير قادرة على الانعتاق من إسار الهيمنة الغربية.
أخلص مما تقدّم إلى أن قضية تطبيع العلاقات الرسمية بين السعودية وإسرائيل ستكون بندا مدرجا على جدول أعمال الإدارة الأميركية في المرحلة المقبلة، ومن ثم يتوقع أن تمارس الولايات المتحدة، حتى انطلاق حملة الانتخابات الرئاسية التي ستبدأ قبل منتصف هذا العام (2023)، ضغوطا هائلة على السعودية، على الرغم من أن التحوّلات الجارية حاليا في النظام الدولي تسمح للسعودية، إن أرادت، بمقاومة هذه الضغوط. والسؤال: هل لدى السعودية ما يكفي من إرادة الصمود لمقاومة هذه الضغوط والإفلات من المصيدة المنصوبة لها؟ آمل ذلك، ولا أستبعده بالضرورة!.