في تذكّر ملل هاني درويش
"لا أستحي من الحديث إليكم بضمير الجمع. نعم كنت ضعيفًا وجبانًا وأقلّ جرأة في اللحظات الحرجة. كنت في الصف الثالث من قاذفي الطوب. لم أصب بخدشٍ ولم تصبني رصاصة مطّاطية ولا حية .. للافتات الإعلان أصلي، لزجاجات المياه الفارغة التي تشابكت وأعيد اختراعها كخوذة أنحني، وأمام الأدرينالين الذي نفث في صدور مئات من شباب الإخوان وشباب المناطق الشعبية عند الصف الأول أتقزّم".
بهذه اللغة الأدبية المميزة، والتي دُمجت بإتقان مع التوثيق المعلوماتي والتحليل السياسي، كتب الراحل هاني درويش مقالاته التي جُمعت لاحقا في كتاب "يوميات الملل الثوري". ومع اقتراب الذكرى التاسعة لوفاته المفجعة في يوليو/ تموز 2013، عن عمر لم يجاوز التاسعة والثلاثين، فإن استعادة ما كتب لا تعد فقط وفاءً لصاحب تجربة مهنية وإنسانية خاصة، بل أيضاً تمثل إطلالة على زمن صار بعيداً بحكم الواقع.
يضم الكتاب ثلاثة أقسام، الأول بعنوان "يوميات"، وهي شهادة على أحداث ثورة يناير في مصر وما تلاها، وقد كُتبت مقالاتها الأولى طازجة في أثناء الثمانية عشر يوماً، قبل التأكّد من مصير البلاد أو شخص الكاتب، لذلك أتت مفعمة بالتعبيرات العاطفية. "لديك هنا رخصة الكلام الذي لا ينتهي والغناء الذي لا يتوقف، والتأمل المشفوع بالمحبة لأبعد الوجوه، والمقابل بسيط، المقابل هو الصمود كحجر لا أكثر".
بعدها تتغير اللغة مع تغير الأحوال، ينتقل صوت درويش من الحماس المتدفق إلى الإحباط، ثم ما أسماه "الملل الثوري". قال إنه اكتشف أن الملل وحده هو الدافع الحقيقي للكتابة، وقد كتب قبل الثورة مللاً من الاستبداد، ويكتب بعدها مللاً من تحوّلها إلى يوميات وفعاليات روتينية ومشخصنة، "فالوجود المستقر العصي على خدش وقائعه هو موت للخيال".
يوجّه درويش انتقاداتٍ لاذعة أثارت الجدل في حياته ضد بعض رفاق الثورة، وهو الأسلوب ذاته الحاد الذي سيستخدمه في الجزء الثاني من الكتاب بعنوان "تيارات"، وفيه يحلّل درويش التيارات السياسية المصرية مركّزاً على التيار اليساري الذي ينتمي إليه، وكذلك التيار الإسلامي الذي يعدّه خصمه الأول.
انتقد تحول قطاع واسع من اليسار إلى ما أسماه "جنون تفليل الجماهير"، حيث الإفراط في تصنيف المصريين حسب موقفهم من الثورة، ثم لأن هذا اليسار يخاف من الجماهير ويتحرّق للوصول إليها في الوقت ذاته، فقد قدّم مساومات فكرية بهدف تعاون أطراف يسارية مع الإخوان المسلمين، أو تحالف آخرين مع حملة المرشّح الرئاسي عبد المنعم أبوالفتوح، وهنا يقصفهم درويش بأقسى قذائف السخرية والتقريع.
يشدّد على أن تياره أضاع فرصة تقديم نفسه للجمهور في لحظة مؤاتية، بينما كشفت أرقام الانتخابات عن أسطورة السيطرة المطلقة للتيار الإسلامي. وفي مواجهة انتقادات لتياره بأنهم "مثقفو مقاهٍ"، فإنه يفخر بتلك الصفة، فهو حقا يعتنق "الفردانية"، وبالتالي، يرفض تماماً التهوين من دافع حماية نمط الحياة الشخصي لاتخاذ المواقف السياسية.
في الجزء الثالث من الكتاب تحت عنوان "مدن وعسكر"، يقدّم هاني درويش خبرات حياتية وصحافية نادرة، ترتبط بمناطق على هامش المركز. وهكذا يصحبنا من تماثيل ضباط الجيش على طريق السخنة، إلى تجارة الأنفاق على حدود غزة، مروراً بوقائع حصار قوات الأمن منطقة نزلة السمّان إلى حين تسليم قيادي الحزب الوطني المتهم بموقعة الجمل.
يمثل الكتاب شهادة تاريخية هامة توثق أحداث زمانها، وكذلك توثق رؤى التيار الذي ينتمي له درويش، فضلا عن مدرسته الصحافية الخاصة، ولا يغيّر من ذلك، بطبيعة الحال، اختلافي مع بعض ما جاء فيه من آراء سياسية أو شخصية.
أحيانا، يتحسّر بعض رفاق درويش على رحيله المفاجئ قبل أن نعرف ما قد يقول أو يفعل لو شهد كذا، وهو حزن خاص وعام أيضا، بالنظر إلى فقدنا هذه الموهبة المبدعة، والروح ذات الشجاعة النادرة في التعبير عن الذات، قبل إعلان الموقف من الآخر.
"ما لي أهيل التراب ثم أعيد نفضه؟ ما هذا التأرجح النكوصي بين البسالة والخضوع؟ الحقيقة تقع كالعادة بين متطرّفين، لكن لإبرازها لا بد من إدامة التطرّف على الجانبين، لتوسيع شقّ التباين إلى حدود المهزلة أو المأساة الكاملة".