في تذكّر عراق فيصل الأول
قيل إن أحد المقرّبين من مؤسّس العراق، فيصل بن الحسين، اقتُرح عليه أن يبني قصرا يليق به ملكا، أجابه فيصل: "لم أجئ إلى هنا كي أبني قصرا، إنما جئت لكي أبني دولة"... تُستعاد هذه الحكاية، وغيرها من مرويات عن العراق الملكي الذي بناه فيصل بن الحسين في الذكرى المئوية ليوم التتويج، وقد انشغل عراقيون كثيرون بالاحتفاء بهذه الذكرى على مواقع التواصل، وبعضهم غرّد بمناقب عهد الملوك وفضائله، مع أن معظم المحتفين لم يحظ بالعيش في تلك الحقبة من التاريخ بحكم العمر، لكنه يكون قد استوحى مشاهد "الزمن الجميل" مما سمعه أو قرأه. وأيضا لأن الحياة في ظل الجمهوريات لم تُمطر، كما أردنا منها، أمنا وأمانا وحياة رغيدة، حتى جعلتنا نفزع بآمالنا إلى الكذب من هول ما عشناه من أهوال، وما اختبرناه من مصائب وكوارث وحروب، بخاصة في العقدين الأخيرين.
رغم التعقيدات، لم يتراجع عن صناعة الحلول وإيجاد المخرجات الضرورية لتخطي التوترات الداخلية واستيعابها
تؤشّر السيرة المستعادة لفيصل إلى أنه كان يمتلك وعيا حادّا بمشكلات العراق، وبما يحتمل أن ينشأ فيه من صراعاتٍ واختلافات، وكذا بما ينتظر أن تحقّقه الدولة الجديدة، وكان قد اكتسب خبرة ودراية بحكم وجوده في قلب العواصف التي عمّت العالم العربي في حقبة ما بعد الحرب العالمية الأولى، إذ حضر مؤتمر السوريين الأول الذي أجمع على اختياره ملكا لسورية، كما شارك في مؤتمر السلام في باريس، ورشّحه الإنكليز ممثلا للثورة العربية التي تم ترويجها لإطاحة الخلافة العثمانية، وبنى علاقاتٍ وطيدةً مع شخصياتٍ غربيةً نافذةً وناشطين عرب. وأعلن رفضه اتفاقية سايكس بيكو التي قسّمت العالم العربي، وإذ حطّ رحاله في العراق، بدا له أن الأرض العراقية ليست ممهدة على نحوٍ يسهل له فيه من بناء دولة بالشروط التي كانت ماثلةً في ذهنه، حيث واجه جملةً من المصاعب المتجذّرة التي كان عليه تفكيكها. كما وجد تركيبة عراقية ملغمة على وقع عدم توفر "الوحدة الفكرية والملية والدينية" التي تشكّل الأساس لتطور البلد ونمائه، وأدرك أنه يحتاج، في إدارته، إلى سياسيين من نوع خاص "حكماء ومدبرين، وأقوياء مادة ومعنى، وغير مجلوبين لحزازات أو أغراض شخصية أو طائفية أو متطرّفة" كما اكتشف وجود "سواد أعظم جاهل (...) وليس ثمّة شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية خالية من أي فكرة وطنية، ومشبعة بتقاليد وأباطيل دينية". وقد أفضى إلى وزرائه ورجال حكمه بما يجول في خاطره، واقترح عليهم خطوطا عريضة لما يمكن أن يبني دولةً قويةً ومقتدرة "إنشاء جيش قوي، واحترام تقاليد وعادات السكان والنظر إلى الطوائف بمنظار واحد، وتأسيس مجالس في الألوية والبلديات، واستحداث معاهد لتأهيل الموظفين، والعمل على مشاركة كل السكان في شؤون الدولة". وأعطى مثلا للعمل العام: "أريد أن أرى معملا لنسج القطن، بدلا من دار للحكومة، وآخر للزجاج بدلا من قصر ملكي".
كان يحمل مشروع دولةٍ حديثة، دولة مواطنة وقانون، وقد حقّق هو ومن جاء من بعده خطواتٍ جادّة على هذا الطريق
ووسط كل تلك التعقيدات، لم يتراجع عن صناعة الحلول وإيجاد المخرجات الضرورية لتخطي التوترات الداخلية واستيعابها، وهي التي أخذت كثيرا من وقته، حتى امتدت آثارها إلى عهد ابنه غازي الذي تولى العرش من بعده، ومن بين ذلك قضية الموصل، وغارات قبائل نجد على كربلاء، وتمرّد الآشوريين، واضطرابات الأكراد، ونزاعات العشائر. وعلى صعيد علاقات الدولة الخارجية، عمل فيصل على إرساء دعائم سلام وتبادل منافع بين العراق وجيرانه وأصدقائه، وعندما حاولت بريطانيا أن تبقي على ما يحقّق مصالحها، عارضة شكلا جديدا للانتداب، وقف فيصل في وجه تلك المحاولات، حتى استطاع أن يحصل على حقوق بلاده، وأن يحقق إلغاء الانتداب ودخول العراق عصبة الأمم واعتراف العالم بالعراق دولة مستقلة وذات سيادة. وإذا كان قد أبقى على تحالفه مع الإنكليز، فلأنه كان يؤمن أن العراق محاطٌ بالأعداء والخصوم من كل جانب، وحتى من الجيران الذين يُضمرون له الشر، وأن عليه، وهو في مرحلة بناء دولته، أن يحافظ على علاقته مع بريطانيا لدرء تلك المخاطر.
هذه القراءة المستعادة لسيرة فيصل الأول تظهر لنا بجلاء أنه كان يحمل مشروع دولةٍ حديثة، دولة مواطنة وقانون، وقد حقّق هو ومن جاء من بعده خطواتٍ جادّة على هذا الطريق، إلا أن الانتكاسات التي شهدها العراق في عهود الجمهوريات أعادته إلى المربّع الأول. وها نحن بعد مائة عام، نتعثر في خطواتنا، بأمل أن ننجز مشروع الدولة التي أرادها فيصل، وقد نحتاج زمنا أطول للوصول إلى ما نريد.