في بيت الإيواء

29 نوفمبر 2023

فلسطينيتان يخبزن باستخدام الحطب في خزاعة جنوب قطاع غزّة (25/11/2023/فرانس برس)

+ الخط -

فجأة انسحب كل شيء من حولي، وانزاح ضمير الملكية عن مفرداتي، لأني حقّا أصبحتُ لا أمتلك شيئا يخصّني، وأصبح كل ما هو لي مساحة غير محدّدة المعالم، ولكنها معروفة أو معترف بها، وهي مساحة على الأرض، تتسع لأبعاد جسمي فقط، ويمكن أن يطلق عليها لو اتسعت قليلا مسمّى السرير، ولو تفاءلنا أكثر، فزاد اتّساعها، فيمكن أن نطلق عليها اسم الغرفة، ولكنها الآن، ومنذ بدأت الحرب وارتحلتُ مع عائلتي إلى بيتٍ في جنوب القطاع، فيمكن أن تقول عن هذه المساحة إنها مساحة لجسمٍ متعبٍ لا يبحث عن شيء سوى الاسترخاء قليلا، ولا يعرف شيئا سوى الانتظار.

سرحتُ وتذكّرتُ حين غاب عقلي عن المكان، واسترجعتُ ما تحدّثت به جدّتي في فترة ما بعد النكبة، وكيف كانوا يطلقون على البيت الواسع مسمّى دار، ويطلقون على كل غرفة من غرفه القرميدية مسمّى البيت، وذلك حين استقرّ بهم الحال في مخيّم اللاجئين في جنوب القطاع، وامتد الغياب بعقلي، فجبت بيت أمي وأبي، والذي كان غرفة في الدار، وكيف تحدّثت أمي عنه بحب، وكان بمثابة غرفة معيشة وغرفة طعام وغرفة لاستقبال الضيوف، إضافة إلى وظيفته الأساسية وهي النوم.

وتذكرت وعقلي ما زال سابحا في ذكرياتٍ وتوصيفاتٍ اختزنها من الماضيين، البعيد والقريب، أن جارتي الفقيرة التي عاشرتها سنوات، وحين كنت أزورها، كانت تطلق على الغرفة مسمّى البيت أيضا، وهي تعيش في بيت عائلة ممتدّة يحتل كل واحد من أشقاء زوجها غرفة واحدة ويجتمعون في باحة البيت، حيث تجلس الأم الكبرى، والتي تدير شؤون الدار كلها، وتذهب إلى السوق، ويمنع ذلك على الزوجات الشابّات، واللواتي تكون مهمّتهن القيام بأعمال الدار المشتركة والكثيرة مع قسوة الحياة، وحيث لا تتوفر فيه حتى وقت قريب بسبب الفقر وسائل الرفاهية وأجهزة التكنولوجيا مثل غسّالة الملابس، وجلاية الأطباق، ولا يملكن أيضا ترف شراء الخبز من المخابز الآلية، ويعددنه في باحة البيت، وحيث يحتلها فرن الطابون. وأمام ذكرياتٍ بعيدةٍ وقريبةٍ، اكتشفت أن التاريخ يعيد نفسه مرغما وليس راضيا أو متّبعا ما دأب عليه الحكماء في وصف الأحداث، فاليوم استقبلت ابنتي زميلتها في بيتنا، وهو غرفة في بيت الإيواء الذي صرنا إليه، فسحبتُها من يدها وجلست معها على الحشية المقابلة لتلك المساحة التي يحتلّها جسمي، وتحدّثتا طويلا عن أخبار وتداعيات مشتركة ومتشابهة، ولكن الحديث الذي طال لم يتخلّله القيام بواجب الضيافة، لأننا لم نكن نملك شيئا يصلح لذلك.

في زاوية من بيتنا الصغير الذي يجمعني بأفراد أسرتي، وضعنا حقيبة بها أمتعتنا، وإلى جوارها أدوات النظافة الخاصة بنا، والتي لا نستطيع تركها في الحمّام الوحيد والمشترك مع نازحين كثر يحتلون غرفتين أخرييْن، وغالبا لا يجمعنا بهم سوى وقت إعداد الخبز وطهي الطعام، ثم تحصل كل عائلة على حصّتها اليومية، وتعود إلى "بيتها"، وحيث يكون على عاتقي كأم توزيع هذه الحصة لكي تسد جوع يوم كامل.

في بيت الإيواء، نجتمع نحن الكبار في ساعات الليل مع قليل من التحفظ، فنحن أيضا غرباء بلا قرابة حقيقية، ولكن هذا البيت جمعنا بسبب النزوح، فنجتمع لمتابعة الأخبار من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، وفي حال انقطاع الاتصالات نتابعها عبر جهاز مذياع صغير، حتى إذا ما نال منا التعب يعود كل واحد إلى بيته الآني، ليحتضن الصغار، ويربت على وجنات الفتيات. وموحياً بأن الأمور تمضي على ما يُرام، رغم ازدياد الخطر المحدق واقترابه، ومشكلات كثيرة تظهر كل يوم، وتزداد مثل شحّ الماء وقرب نفاد ما تم تخزينه من طعام.

وتستسلم بعد ذلك للنوم بكامل ملابسك، وتُرخي حذاءك المحكم حول قدمك المتعبة قليلا، ولكنك لا تُرخيه إلى درجة أن يفلت منك لو اضطررت للهروب ذات ليلة، فيما يدنو الخطر وينال من الجوار بحثاً عن بيت إيواء جديد.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.