في الانعطافة التركية المحتملة في السياق السوري

19 اغسطس 2022

سوريون يتظاهرون في الباب ضد توجه تركيا إلى مصالحة المعارضة مع النظام (12/8/2022/فرانس برس)

+ الخط -

أحياناً، يكون تظاهر بعضهم بالصدمة من خبر أو تطور ما أدعى إلى العجب من الخبر أو التطور ذاتهما، ذلك أنه، وكما يقول المثل، المكتوب يُقرأ من عنوانه. يصلُح هذا التقديم لسحبه على تصريحات وزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، الأسبوع الماضي، في مؤتمر للسفراء الأتراك في أنقرة، عن ضرورة "أن نصالح المعارضة والنظام في سورية بطريقةٍ ما، وإلّا فلن يكون هناك سلام دائم". وأضاف "لمنع تقسيم سورية، يجب أن تكون هناك إدارة قوية للبلاد، يمكنها أن تسيطر على كل ركن من أراضيه، وذلك ممكنٌ فقط من خلال الوحدة". وقد جاءت تصريحات أوغلو في سياق كشفه عن "محادثة قصيرة" جمعته مع وزير خارجية النظام السوري، فيصل المقداد، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في بلغراد. لم يكتف أوغلو بذلك، بل أشار إلى اقتراح قدمه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إلى الرئيس التركي، أردوغان، لترتيب لقاء يجمعه برئيس النظام السوري، بشّار الأسد، غير أن أردوغان لم يحبذ الفكرة، وفضل استمرار التواصل "عبر استخبارات البلدين" في المرحلة الراهنة.
في اليوم التالي (12/8)، خرجت مظاهرات حاشدة في شمال سورية، وتحديداً في عدد من مدن وبلدات وأرياف محافظات حلب وإدلب والحسكة، احتجاجاً على هذه التصريحات. أيضاً، سارعت هيئات وشخصيات سورية معارضة إلى إدانتها. أما الحكومة السورية المؤقتة، المعبرة عن المعارضة، والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، فحاولا التقليل من كون التصريحات تعبيرا عن مقاربة تركية جديدة للموقف حيال سورية. وفعلاً، أصدرت الخارجية التركية في اليوم التالي لتصريحات أوغلو بياناً توضيحياً لم يأت على فكرة مصالحة "المعارضة والنظام في سورية بطريقة ما"، بقدر ما ركّز على جهود "تركيا الدولة التي بذلت أكبر جهد لإيجاد حل للأزمة في هذا البلد بما يتماشى مع التوقعات المشروعة للشعب"، ولكن "تعنت النظام" أفشلها. وشدّد البيان على أن تركيا ستواصل "مع جميع أصحاب المصلحة في المجتمع الدولي، تقديم مساهمة قوية في الجهود المبذولة لإيجاد حل دائم لهذا الصراع، بما يتماشى مع توقعات الشعب السوري. وسيستمر تضامننا مع الشعب السوري".

لم تنبذ تركيا حلفاءها، ولكنها أعادت تعريف العلاقة بهم، وتحديد مستوياتها والمدى الذي قد تذهب إليه في دعمهم

لا يسعى هذا المقال إلى الدفاع عما قدمته تركيا للشعب السوري أكثر من عقد من ثورته، ويكفي أنها تستضيف قرابة أربعة ملايين لاجئ منهم على أراضيها، كما نجحت في توفير مناطق آمنة، نسبياً، لملايين آخرين في شمال سورية من جرائم النظام وحلفائه. كما لا يهدف هذا المقال إلى تسويغ ما يبدو أنه موقف تركي جديد، ولا حتى إلى إدانته. ما يريد أن يقوله هذا المقال ببساطة أنه لا منطق يفسّر موقف من يزعمون المفاجأة بين السياسيين والأطر والهيئات السورية المعارضة، فمنذ عام ونصف العام، تقريباً، والسياسة التركية الإقليمية تشهد تحوّلات عميقة مستمرّة، لا تخطئها عين. وبالتالي، إعادة الارتكاز التركي نحو سورية ما هي إلا مسألة وقت. كانت البداية في الحوارات التي أجرتها أنقرة مع مصر، وترجمت بعد ذلك في تضييقات على المعارضة المصرية في تركيا. ثمَّ تلتها جهود التقارب مع الإمارات، وبعد ذلك إسرائيل ثمَّ السعودية، وأخيراً، وليس آخراً "المقاربة الشاملة"، حسب تعبير السفير التركي في طرابلس، كنان يلماز، التي تنتهجها بلاده الآن تجاه ليبيا، بحيث تنظر إليها ككل من دون التمييز بين شرقها وغربها، وأفضت إلى زيارة رئيس مجلس النواب الليبي في بنغازي، عقيلة صالح، أنقرة مطلع شهر أغسطس/ آب الجاري، رغم أن تركيا دعمت من قبل، بما في ذلك عسكرياً، حكومة طرابلس، ومجلس الدولة الأعلى للدولة.
موضوعياً، لم تنبذ تركيا حلفاءها، ولكنها أعادت تعريف العلاقة بهم، وتحديد مستوياتها والمدى الذي قد تذهب إليه في دعمهم، آخذة في الاعتبار الكلف الاستراتيجية الباهظة المترتبة على ذلك. بوضوح، منطق أنقرة اليوم: "تركيا أولاً". لذلك، يخطئ كثيرون عندما يتعاملون مع تركيا وكأنها دولة تلعب فيها الإيديولوجيا الدور ذاته الذي تلعبه في إيران. هذا لا يعني غياب الحسابات الإيديولوجية داخل كثير من دوائر حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، ولدى الرئيس أردوغان نفسه، ولكنها محكومة أكثر من إيران بمصالح الحزب والرئيس الانتخابية، وبحسابات تركيا الاستراتيجية. نظام الحكم في تركيا ليس ثابتاً ولا هو راسخ كما هو في إيران، وهو قابلٌ للاستبدال بأي انتخابات مقبلة، بل وحتى بانقلاب عسكري، مع تراجع احتمالاته بعد فشل المحاولة الانقلابية عام 2016. من ثمَّ، فإن ما يجري هو مواءمات جديدة في ظل تحدّيات جيوستراتيجية تواجهها تركيا كدولة، وحزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في شهر يونيو/ حزيران 2023.

لا تستطيع تركيا أن تتجاهل تبلور حلف أميركي – إسرائيلي – وبعض عربي في المنطقة، تجد نفسها خارجه

لا يمكن لتركيا، ولا للحزب الحاكم، أن يغفلوا الحقائق الجديدة على الأرض، سواء لناحية فشل ثورات "الربيع العربي" وسقوط رهانات أنقرة عليه وعلى قواه، أم لناحية الأزمة الاقتصادية ونسب التضخّم غير المسبوقة في البلاد، والتي مسّت بكل مواطنيها. يندرج ضمن ذلك توتر علاقات تركيا بالولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، لأسباب عدّة، ليس أقلها دعم هؤلاء الانفصاليين الأكراد في شمال سورية، بما يشكّل تهديداً لأمن تركيا القومي ووحدتها الجغرافية. أيضاً، لا تستطيع تركيا أن تتجاهل تبلور حلف أميركي – إسرائيلي – وبعض عربي في المنطقة، تجد نفسها خارجه، إن لم تكن أحد أهدافه، في الوقت الذي لم تنجح فيه في كسب الطرفين، الروسي والإيراني، خصوصاً لناحية هواجسها من الملف الكردي في شمال سورية. ينسحب الأمر ذاته على حساباتها المعقدة في شرق البحر الأبيض المتوسط والتوتر مع اليونان، والتي تجد دعماً من الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، وإسرائيل، ودول عربية، كمصر والإمارات والسعودية. أضف إلى ذلك أن الأزمة الاقتصادية التي تعيشها تركيا، في ظل اقتراب الانتخابات العامة، أعادت نكء جرح العنصرية البغيضة التي تروّجها المعارضة ضد اللاجئين السوريين، وهو ما ينتج ضغطاً مضاعفاً على الحزب الحاكم.
النتيجة المُرَّة هي ما نشهده من تحولات استراتيجية تركية جوهرية، وهي لمَّا تصل إلى مداها بعد، وينبغي توقع مرحلة مقبلة أصعب، خصوصاً في السياق السوري. وإذا كان في ذلك من عبرة لنا، نحن العرب، فهي أنه من دون وجود مشروع ذاتي لنا، سنبقى نعامَل على أننا عالة على الآخرين، بعد أن يستنفدوا أغراضهم منا، أو بعد أن نثبت أننا كنا رهاناً فاشلاً لهم. أيضاً، لعل في ذلك تذكرة لمن لا يزال يعيش الوهم، أن السياسة لا تخضع لمقولات الإيديولوجيا بالمطلق، وربما غالباً. إنها السياسة في إحدى صورها الباردة والفجَّة.