في الانحطاط السياسي
تعاني مجتمعات كثيرة، خصوصا العربية منها، انحطاطا في المشهد السياسي الحاكم فيها، حيث وصل إلى مستوياتٍ دُونية يصعب معها الإصلاح والتّرقيع؛ بل إن السّمة الظاهرة اليوم هي الهبوط والانحدار، فلا الدساتير تُحترم، ولا القوانين يعمل بها، ولا الاتفاقيات التي تُبرم بين الأطراف المتنازعة تُحترم، وتكون فيصلا عند النزاع والخلاف، بل إن الغلبة للمتقوّي بالداعم الإقليمي والدولي المتدخل في شأن هذه الدولة أو تلك.
الانحطاط في اللغة هو الانحدار إلى الأسفل، وضدّ العلو والارتفاع، نقيض السمو والارتقاء، بل هو، من وجهة نظري، كل فعل لا يرقى إلى أن يكون مرتفعاً عن سفاسف الأمور، السياسية منها والاجتماعية، ناهيك عن الانحطاط المتعمّد بفعل طبقة سياسية حاكمة، أو من شخص أو أشخاص في سدّة الحكم من أعلى درجة إلى أسفلها، بحيث تتحوّل السياسة من نظامٍ محكم مرتبط بدستور وقوانين ولوائح وتنظيمات تعتمدها الدولة وتسير عليها، إلى "تصرّفات" فردية أو جماعية باسم الدولة أو سلطان الحكم فيها، لا تحترم الدستور ولا القوانين، ناهيك عن القيم المنظمّة للعمل السياسي فيها.
المتابع لهذا الانحطاط، خصوصا في السنوات الأخيرة، لا يجد حرجا في توصيفه، باعتبار أنه قائم بفعل ركائز داخلية وأخرى خارجية تغذيه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ظهوره وعلانيته، فلم يعد الانحطاط اليوم كما كان قبل مُنمقاً بأفعال مصاحبة تجعل له الغطاء المزخرف لكي يستمرّ، بل على النقيض من ذلك، فظهوره اليوم سبب في استدامته واستمراره، باعتبار العامل الأجنبي الذي يرتضيه ويروجه. في المقابل، لا يمكن للعاقل إنكار وجود الانحطاط الداخلي المجتمعي والنخبوي على درجات متفاوتة، بل إن الانحطاط الداخلي، بكل أنواعه وأشكاله، هو الذي مهّد الطريق لإيجاد الانحطاط المدعوم من الخارج، حتى أُغلقت البرلمانات الشرعية، وأُسقطت الحكومات السليمة، فكان التأييد لهذا الفعل من الخارج قبل الداخل، وهو فعلٌ يتغذّى من الانحطاط السياسي الذي لا يحترم القوانين ولا الدساتير. وفي المقابل أيضا، دُعمت البرلمانات المنتهية ولايتها سنوات وسنوات في بلدان أخرى، دعما للانحطاط السياسي في تلك الدولة، وإمعانا في جعل السياسية خالية من المبادئ، والمدد القانونية والدستورية الحاكمة في أجسام الدولة. وهذا ما يمكن أن نصفه بالانحطاط السياسي المقلوب.
من الضروري اليوم البحث عن العناصر التي تنتج الانحطاط الداخلي المتغذّي من الخارج، سواء أكانت هذه العناصر سياسية أو اجتماعية
انحطاط الأفعال السياسية في بلدان كثيرة ظاهر اليوم، ولا يحتاج إلى دليل، بل لا يمكن التردّد في هذا الوصف، بل الأولى من ذلك هو العمل على إنقاذ هذه البلدان من هذا الانحطاط والفعل المذموم في السياسة فيها، حتى لا يكبر الجرح، ويصعب بعدها تنظيفه وعلاجه بالطرق السليمة والطبيعية، وفق نطاق الدستور الحاكم في البلاد.
كما أنه بات من الضروري اليوم البحث عن العناصر التي تنتج الانحطاط الداخلي المتغذّي من الخارج، سواء أكانت هذه العناصر سياسية أو اجتماعية، وحتى أمنية واقتصادية، من أعلى الهرم إلى أسفله وليس العكس، وذلك أن الانحطاط عادة ما تكون عناصرُه منتجةً من الفساد المستشري في أعلى الدولة الذي عادة ما ينتج الانحطاط السياسي ويغذّيه، بل ويكون مصاحبا لكل تعدٍّ على قيم الدولة ومنهجها السياسي، حتى يبرّر الفعل لكل ما يقوم به، غير أن ذلك ليس هو باب الانحطاط السياسي الوحيد، فالنخب المجتمعية، والكيانات السياسية الداعمة له، أو المتشابكة في المصالح السياسية معه، من أقوى دعائم الانحطاط واستمراه.
وبالتالي، العمل على إصلاح الانحطاط السياسي بات اليوم ضروريا في بلدان عربية كثيرة. ينطلق هذا الإصلاح من القاعدة الشعبية للمجتمع نحو إصلاح المؤسسات العليا في الدولة، لتقبل التغيير والتكيّفَ مع الضرورة اللازمة لتطور البلدان والحالة السياسية بعد نجاح الثورات فيها، وبما يحقّق التوازن والاستقرار السياسي الذي يتخلّص من الانحطاط السياسي، ويتعدّاه إلى الأخذ بالسياسة السليمة الحاكمة وفق الدستور والقانون. وكذلك بما يحقق آمال الشعوب في بناء دولتها، والخروج من حلقة التبعية والانحطاط المتعمد للعودة بها إلى سياسة التسلط والاستبداد.