في أن لأنقرة علاقات بتل أبيب
لم يكن أول احتكاكٍ على المنابر بين أنقرة وتل أبيب، غير أن ما يلفت الانتباه في الاحتكاك الذي بادر إليه الرئيس التركي، أردوغان، قبل أيام في خطابه أمام الانعقاد السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، هو توقيت هذه "المواجهة"، في غمرة أجواء احتفالية بموجة التطبيع الخليجية الجارية مع تل أبيب، وكان مما جرى ترديده، في محاولة تسويغ ما لا يسوّغ، أن تركيا تقيم علاقاتٍ قديمة وراسخة مع تل أبيب، وتعترض، في الوقت ذاته، على موجة التطبيع هذه، فلماذا يُحرّم حزب العدالة التنمية (الحاكم) على الآخرين ما يُحلله لنفسه وبلده؟.
كانت كلمة الرئيس التركي أمام الأمم المتحدة من الخطابات القليلة التي تم فيها انتقاد سلوك دولة الاحتلال، وبهذا الوضوح وتلك الحدّة
قال أردوغان، في خطابه، إن "اليد القذرة التي تمتد للقدس، حيث توجد الأماكن المقدّسة للأديان الثلاثة، تزيد من وقاحتها". وزاد أن "تركيا لن تدعم أية خطةٍ لا يكون الشعب الفلسطيني طرفا فيها"، في إشارة إلى "صفقة القرن" الأميركية الإسرائيلية، قائلا إن "الفلسطينيين يواجهون سياسة القمع والعنف من إسرائيل منذ أكثر من نصف قرن". وهو ما حمل المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة، جلعاد أردان، إلى الانسحاب، وإلى التدوين، على "تويتر"، إن أردوغان "معاد للسامية ويعتمد معايير مزدوجة". وكانت كلمة الرئيس التركي من الخطابات القليلة التي تم فيها انتقاد سلوك دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبهذا الوضوح وتلك الحدّة. وهي لم تؤد إلى قطع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، لكنها شحنت الأجواء بين الجانبين بمزيدٍ من الجفاء واهتزاز الثقة والتوجس المتبادل، علما أن العلاقات التركية الإسرائيلية ليست سراً، ولا هي حديثة العهد، وليست محل إنكار من طرفيها. إذ كانت تركيا أول بلد مسلم يعترف بالدولة العبرية ويقيم علاقات معها، في 1949 بعد أقل من سنة على قيام هذه الدولة على أرض فلسطين. وقد تطوّرت العلاقات في سياق تموضع تركيا آنذاك ضمن المنظومة الغربية، وفي أجواء الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والغرب من جهة والاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية من جهة ثانية. وقد تنامت العلاقات، واتخذت، منذ وقت مبكر، طابع تعاون عسكري وتسليحي، وورثها حزب العدالة والتنمية، حين وصل إلى البرلمان والسلطة التنفيذية، ولم ينشئها. وفي المحصلة، فإنه قام بتخفيض وتيرتها، وتحوّلت إلى علاقة باردة. والذي حدث أن أردوغان، ومعه في البداية عبدالله غل وأحمد داود أوغلو، عملوا على تحسين العلاقات مع العالمين، العربي والإسلامي، محتفظين بالعلاقات مع تل أبيب، ولكن مع توجيه النقد إلى الاحتلال الإسرائيلي، إذ شهدت تلك الفترة في مطلع الألفية الثالثة الانحراف الإسرائيلي المتزايد نحو اليمين والتنصل من الاتفاقيات مع الجانب الفلسطيني، وقد بلغت أوجها باغتيال الراحل ياسر عرفات عام 2005. وهي أيضا الفترة نفسها التي شرعت فيها أنقرة تتخذ سياسةً ذات منحى مستقل نسبيا عن السياسة الأطلسية. وقد شهدت العلاقة التركية الإسرائيلية أوضح اختبار لها في العام 2010، حين سيّرت أنقرة مع مجموعات أوروبية "سفينة الحرية" لكسر الحصار على غزة، وتزويدها بمواد غذائية وإغاثية، وهو الحصار الذي ضربه الاحتلال على القطاع بعد الانسحاب منه. وقد اعترضت البحرية الإسرائيلية القارب، وقتلت تسعة من الناشطين على متنه، واعتقلت الباقين قبل أن تخلي سبيلهم. وقد تسبّب ذلك بتصدّع العلاقات مع أنقرة سنوات قبل أن يعود السفيران إلى مكاني عملهما في 2016، وبعد تقديم اعتذار إسرائيلي إلى أنقرة. وقد انخفض مستوى برنامج التعاون العسكري خلال هذه الحقبة، وتكرّس التباعد السياسي بين الجانبين حتى أيام الناس هذه، فيما تحسّنت العلاقات وتطورت بين أنقرة والجانب الفلسطيني، باستثناء منظماتٍ ذات ارتباط وثيق بدمشق. ومجرّد وجود تبادل دبلوماسي بين طرفين لا يعني أن العلاقات بينهما تظل جيدة أو مستقرّة، كما أن الخلافات، حتى الشديدة منها، لا تؤدّي، بالضرورة، في العلاقات الدولية (بين الدول) إلى قطع هذه العلاقات، اللهم إلا حين تشتد نُذر مواجهة عسكرية مثلا، مثلما يحدث، وهو نادرا ما يحدث، بين الهند وباكستان، أو بين تركيا واليونان. وواضح أن العلاقات الدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب تتيح للأولى قدرا من التواصل مع الجانب الفلسطيني، ومعاينة الواقع الاحتلالي على الأرض.
مناهضة احتلال استئصالي واستيطاني، مثل الإسرائيلي، موقف أخلاقي وإنساني وقانوني
وفي ظروف أخرى، قد يتغير الوضع، إذا ما عادت مثلا إلى الحكم قوى علمانية متغرّبة في تركيا، ترى "من طبيعة الأمور ومنطق الأشياء" أن تقوم علاقات قوية ومتينة مع تل أبيب، مهما كان سلوك الأخيرة! فالكلمة في النهاية هي للشعب التركي الذي تتولى الحكومة الحالية تمثيله. وإلى ذلك، من المهم التذكير أن تركيا ليست بلداً عربياً، أو عضواً في جامعة الدول العربية، فلا تنطبق عليها مواثيق الجامعة، كما الحال مع الدول العربية الأعضاء، ولا الالتزامات القومية العربية، ولا حتى التقيد بمقتضيات الأمن العربي الجماعي. ولن يطلب منها أحد أن تكون عربية أكثر من العرب أو بعضهم، مع أن واقع الحال يشهد على شيءٍ من ذلك. وبعيدا عن الانتماءات القومية والعقائد الدينية والهويات الأيديولوجية للدول والأنظمة السياسية، فإن مناهضة احتلال استئصالي واستيطاني، مثل الإسرائيلي، موقف أخلاقي وإنساني وقانوني، علاوة على أنه موقف سياسي صائب، ولا يتطلب اتخاذ هذا الموقف أن يكون صاحبه عربياً أو على دين معين أو معتنقا عقيدة بذاتها، بل أن يتمتع بحد أدنى من المبادئ والحس البشري السليم، مع عدم طرح المصالح جانباً.
وإلى ما تقدّم، إذا كانت علاقات أنقرة بتل أبيب تستحق" المعايرة"، أي التخطئة والتذنيب، فلماذا هرولة من يهرول إلى إقامة مثل هذه العلاقة، وما هو أوسع منها؟