في أزمة بوريس جونسون
نجا رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، في السادس من يونيو/ حزيران الجاري من اقتراع كان يهدف إلى حجب الثقة عنه، حيث حاز بالكاد عدد أصوات مناسباً لبقائه: 211 مقابل 148. هذه النجاة، وإن نجحت في الحفاظ على الحكومة من الانهيار، إلا أنها أكدت أن الرجل ما يزال محلّ اختلاف، حتى بين أعضاء حزبه، "المحافظين".
شغلت الحادثة الإعلام الأوروبي الذي ظل يهتم بمصير جونسون منذ اندلاع أزمة الحفلات (بارتي غيت)، والتي اتهم الرجل بموجبها بالكذب على البرلمان عن إقامة حفلات في وقت كانت فيه البلاد قد دخلت في حالة إغلاق شامل. يرى مراقبون اليوم أن أيام جونسون في الحكم باتت معدودة، وأنه ربما سيواجه مصير رئيسة الوزراء السابقة، تيريزا ماي، التي مكثت ستة أشهر فقط بعد خوضها اختباراً مماثلاً.
يعتبر كثيرون أن تناقص شعبية جونسون ناتج عن سياساته المتخبّطة وكذبه، وإن كان من صوتوا لصالحه يرون العكس، أن الرجل، الذي يمتلك خبرة طويلة في العمل السياسي، ليس سوى ضحية للظروف الدولية المعقدة التي عمل فيها، ما بين جائحة كورونا إلى أزمة اللاجئين ونهاية بالحرب الروسية على أوكرانيا، والتي أضافت تحدّيات جديدة لم تكن في الحسبان. الحرب الأوكرانية لم تنذر فقط بأزمة في الغذاء وموارد الطاقة، وإنما ساهمت في ارتفاع نسب التضخّم، ودخول البلاد في موجة من الغلاء. الأزمة التي قللت القوة الشرائية للناس ورفعت الأسعار، أثرت كذلك على السياسة الداخلية، وجعلت بريطانيا تفكّر لأول مرة في إدخال تعديلات حسّاسة على قانون منح الجنسية، وفي تطبيق أفكار من قبيل توجيه اللاجئين القادمين عبر البحر إلى وجهة ثالثة توفيراً للنفقات.
بريطانيا، بل مجمل الغرب، يعاني حالةً غير خافية من التراجع الاقتصادي، والتي ارتبطت بمشكلات كثيرة على الصعيد الاجتماعي الداخلي
للقضية أبعاد كثيرة، منها الحديث عن جوهر الديمقراطية ومساءلة خيار الناس، وما إذا كانت الطريقة المتّبعة، حتى في التجربة الغربية، معبّرة بشكل صادق عن حقيقة ما يريده الناخبون. في هذا السياق، تتساءل وزيرة الثقافة، نادين دوريس، عن موضوعية حجب الثقة، قائلة إنها تجد من الغريب أن تتمكّن مجموعة ضئيلة من البرلمانيين، وتحت أي ذريعة، من الالتفاف على أصوات خمسة عشر مليون ناخب.
في الديمقراطية البريطانية، لا تكون علاقة رئيس الوزراء دائماً جيدة بالبرلمانيين، وهو ما يصدق في حالة بوريس جونسون. كان تفعيل الاستفتاء حول الخروج من الاتحاد الأوروبي يحمل رسالة مهمة، مفادُها أن رغبة الناس ربما تختلف عن رغبة البرلمانيين، على الرغم من أن الأخيرين منتخبون ويفترض أنهم يمثلونهم. يضع هذا الممارسة الديمقراطية نفسها أمام تحدٍٍّ كبير على غرار ما حدث من انقسام في عام 2019 ما بين الاستفتاء ونتيجته الواضحة والبرلمان الذي حاول تعطيل خطط الخروج ورئيس الوزراء الذي كان يبدو معادياً للبرلمانيين. ولجونسون المعتدّ بنفسه أعداء كثر ضمن الطبقة السياسية، أما محاولته التقليل من دور البرلمان فجعلته يتّهم بمحاولة لعب دور الرئيس في بلد يكون فيه رئيس الوزراء نفسه بصلاحيات محدودة.
وقد كانت لمجلة إيكونومست طريقة مثيرة للانتباه في التطرق إلى الأزمة، فعلى غلاف عددها الأخير عنونت "مشكلة بريطانيا ليست بوريس جونسون". حمل غلاف العدد صورة لسلحفاةٍ ملونةٍ بألوان العلم البريطاني، وكأنها ترمز لبطء حالة النمو الاقتصادي البريطانية وهي صورةٌ تلخص وجهة نظر المجلة التي تعتبر أن الاقتصاد البريطاني ما عاد ذلك الاقتصاد الديناميكي المتأسّس على السوق الحرّة، بل هو اقتصادٌ متراجعٌ أصبحت معه البلاد متخلفةً بشكل واضح عن ركب الدول الغنية.
من خلال الاستشهاد بدراسات وإحصاءات ومصطلحات فنية كثيرة يواجه ملف "إيكونومست" بريطانيا بحقيقتها ومشكلتها التي تتجاوز شخص رئيس الوزراء. اعتبرت المجلة أن الركود الاقتصادي الذي تعانيه البلاد والتناقص الحادّ في الناتج المحلي الإجمالي (أقل حالياً بنسبة 25% من الولايات المتحدة) سوف يتسبّبان في تناقص التأثير العالمي وفي فقدان الإيمان باقتصاد السوق الحرّة. هذا بخلاف تأثير ذلك كله على الصرف على الخدمات العامة الذي سيؤدي، بدوره، إلى تغذية الاتجاهات اليمينية التي ستتبنى من جديد خطاب إعادة تعريف المواطنة والهوية.
يرفض البريطانيون الاعتراف بتقلص مكانة بلادهم، وبأنها أصبحت مجرّد دولة في عداد الدول الغنية
يمكن الاتفاق مع وجهة النظر هذه، فبريطانيا، بل مجمل الغرب، يعاني حالةً غير خافية من التراجع الاقتصادي، والتي ارتبطت بمشكلات كثيرة على الصعيد الاجتماعي الداخلي من بروز اليمين المتطرّف واستعادة الخطاب المعادي للإسلام وغيرهما من المظاهر.
هنا لا بد بين مزدوجين من الإشارة إلى مفارقةٍ طريفة، فعلى الصعيد الدولي، وعلى الرغم مما تعانيه الدول الغربية من مشكلاتٍ، ومن عجز عن مواجهة تحدٍ وجودي خطير، كالتمدّد الروسي، إلا أنها ما تزال تحتفظ بهيبتها في دول العالم الثالث، وفي منطقتنا العربية خصوصا، ففي الوقت الذي تبحث فيه دول الغرب عن مواطئ قدم لاقتصاداتها المنهكة، وعن فرص لتوفير مزيد من الوظائف أو إيجاد موارد جديدة، يظنّ بعض سياسيي المنطقة أن بريطانيا أو فرنسا أو حتى الولايات المتحدة بإمكانها أن تقدّم دعمًا مقدّراً أو مالاً مجانياً أو أن تنقل البلاد من ظلام الإفلاس إلى نور الرفاه الاجتماعي.
حتى الذين يعترفون بأن الغرب أصبح أسداً جريحاً، فإنهم يخشون الاقتراب منه، لخشيتهم من أن يكون أكثر شراسة في لحظاته الأخيرة. في هذا التشبيه، أنا مدين للفرنسي تييري ميسان، أحد نقّاد التفوق الغربي، الذي كتب مرة "منذ عام 2001 جميع قادة العالم يرون في الغرب عمومًا، وفي الولايات المتحدة خصوصاً، صورة حيوان ضار، لكنه مجروح. لا يجرؤون على مهاجمته، بل يفضّلون اصطحابه بهدوء إلى المقبرة. لم يتوقع أحد أن الغرب سيعزل نفسه بنفسه مع اقتراب أجله".
في الديمقراطية البريطانية، لا تكون علاقة رئيس الوزراء دائماً جيدة بالبرلمانيين، وهو ما يصدق في حالة جونسون
من بين الدول الغربية، تحظى الأزمة البريطانية بخصوصية، فالبلاد التي ورثت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، وتمتعت قرابة قرنين بخيرات مستعمراتها الممتدّة، يرفض مواطنوها الاعتراف بتقلص مكانة بلادهم، وبأنها أصبحت مجرّد دولة في عداد الدول الغنية، وأن مكانتها، حتى ضمن هذه الدول، في تراجع وانحسار.
ليس هناك ما هو أدلّ على تلك النفسية المستعلية من طريقة تعامل البريطانيين مع الدول الأوروبية الأخرى، فحتى قبل الخروج من الاتحاد، كانت بريطانيا ترفض العملة المشتركة، كما كانت ترفض فتح الحدود أو المشاركة في تقاسم أعباء اللاجئين مستندة على موقعها الجغرافي الذي يفصلها عن الجميع. اليوم وبعد ما يعرف بـ "بريكست"، تشير النتائج الاقتصادية إلى كوارث كبيرة تسبب فيها ذلك القرار، وهي كوارث كانت سهلة الاستنتاج، لولا أن السياسيين، الذين كانوا مدفوعين بحب الاستقلال والانفصال، كانوا يرفضون الإصغاء والاستماع لأي رأي سالب. ويواجه المستثمرون والمتعاملون البريطانيون في التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي تعقيدات كثيرة تضيع الوقت والمال، كالتصاريح والضرائب العالية والجمارك، وهو ما جعل الصادرات السنوية تقل بنسبة كبيرة عما كان عليه الحال فيما قبل الاستفتاء والخروج.
كل هذه مشكلات لن يحلها مجرّد بقاء جونسون أو رحيله.