في فهم دعم مدريد الحكم الذاتي في الصحراء
في الفيلم الحربي عن الجنرال الأميركي جورج باتون، الذي يحمل اسمه، مشهدُ توشيح الجنرال في القصر المغربي في الرباط، بعد أن كان يتابع الاستعراض العسكري، حيث الخيول والجِمال والمشاة. يقول العاهل المغربي: "إنه المغرب، ما هو رأيك فيه؟"، فيجيب الجنرال: "إنه مزيج سعيدٍ وراقٍ بين الإنجيل وهوليوود". .. هذه الغرابة في مشهد هو إحالة على المكان الذي يجمع بين البعدين، الديني والملحمي، في المغرب الأقصى، في آخر البحر الأبيض المتوسط، وبين البعد المشهدي الذي يطبع وجوده.
لا يمكن أن يغيب المشهد لمن يتابع التطورات الجيوسياسة في منطقة المتوسط وشمال أفريقيا اليوم، سيما في العلاقة بين إسبانيا والمغرب وقضية الصحراء. هناك نوع من التلاقي بين التاريخ والملحمة والنبضات الهيتشكوكية الهوليوودية في المواقف التي طبعت إقرار حكومة بيدرو سانشيز بدعم الحكم الذاتي والوحدة الترابية للمغرب.
ما الذي سيحدُث، بعدما استقرت تقلبات السياسة الجيوسياسية على ثوابت الجغرافيا بين مدريد والرباط؟ لعل الموقف الأكثر إثارة بعد الاعتراف الأميركي بسيادة المغرب على صحرائه، في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2020 هو الموقف الثاني الذي انتظره المغاربة 47 سنة، على الرغم من أنه يبدو تسلسلا منطقيا، بعد انفراج موقف واشنطن، فإسبانيا ليست أي دولة. هي، أولا، الدولة التي استعمرت الصحراء قرنا، الى جانب الشمال المغربي، ما جعل المغرب يعيش تجربة استعمارية فريدة وغير مسبوقة، وتجربة تحرّر غير مسبوقة وقاعدة للوحدة غير مسبوقة. وإسبانيا ثانيا، كانت قد قابلت إرادة التحرّر بقسوة، وأنشأت الفكرة الانفصالية من خلال "ابتكار" شعب صحراوي في عقر الامم المتحدة، لمّا أراد المغرب تحرير البلاد عبر مسيرة خضراء سلمية. وقتها تحدّث الممثل الدائم لمدريد عن مواجهة عسكرية للحشود، معتبرا إياها "خطرا على الشعب الصحراوي". وفي إسبانيا ثالثا، جرى تحالف بقايا العسكر "الفرانكاوي" (نسبة إلى الجنرال فرانكو) مع طلائع العسكر البومديني (نسبة الى الرئيس الجزائري هواري بومدين)، في محاوله نسف تجربة استكمال الوحدة الترابية للمغرب.
حسمت الولايات المتحدة ميزان القوة لفائدة المغرب، بعد الاتفاق الثلاثي، المغربي الأميركي الإسرائيلي
إسبانيا، صاحبة المفارقة التاريخية من بعد، إذ وقّعت على اتفاق مدريد في فبراير/ شباط 1975، وهو التوقيع الذي أخرجها من المواجهة، وأتاح للعسكر الجزائري مواصلة الحرب المفتوحة، وكانت الجزائر اعتبرت وقتها التوقيع الإسباني "خيانة".
وإسبانيا، رابعا، هي التي أنزلت علمها من الصحراء ليرتفع العلم المغربي، وظلت مع ذلك 47سنة في تموقع سياسي لا يساعد على التقدّم نحو الحل. كما تعتبر، خامسا، الحاضنة الكبرى لأكبر نشاط شبه عسكري للمجتمع المدني المساند للانفصال، وذهبت التحاليل إلى أن كلفة الدعم التي تقدمه يساوي ثمن عشر دبابات روسية في السنة! وإسبانيا، سادسا، تعدّ الوعاء الأوروبي لتحديد الموقف من النزاع، ومن العلاقة مع المغرب. وكانت آخر مرّة هي رأس الحربة في النزاع مع الاتحاد الأوروبي، بمؤسساته السياسية، كما هو حال البرلمان. وإسبانيا، سابعا، عضو مجموعة أصدقاء الصحراء التي تضم الولايات المتحدة، بصفتها "حامل القلم"، وكاتبة القرارات الصادرة عن مجلس الأمن، إضافة إلى روسيا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا، ويأخذ برأيها في كل المفاوضات والمشاورات المتعلقة بالصحراء.
والأهم في المرحلة التي رافقت الأزمة العميقة بين المغرب وإسبانيا أن الأخيرة سعت إلى تغيير موقف أميركا بالاعتراف بسيادة المغرب، ولم تدّخر جهدا، هي وألمانيا في سبيل ذلك. وقد كانت الولايات المتحدة قد حسمت ميزان القوة لفائدة المغرب، بعد الاتفاق الثلاثي، المغربي الأميركي الإسرائيلي، وبالتالي تغير "كود" (شيفرة) شبكة القراءة في المنطقة غرب المتوسط وشمال أفريقيا. وقد جرى اعتبار أن الموقف الأميركي سيقوّي المغرب في مواجهة إسبانيا، ويغير المعادلة رأسا على عقب. ولهذا، تصرّفت أسبانيا من موقع الدولة المنافسة، وعملت من أجل تراجع أميركا عن مساندتها الصريحة سيادة المغرب على صحرائه.
تقدّم المغرب بمسافاتٍ مهمةٍ عن قراءة ألمانيا وإسبانيا التوجهات الجديدة للولايات المتحدة، والموقع الجديد للمغرب في المعادلة الجيواستراتيجية
وفي تلازم واضح، عملت ألمانيا على الهدف نفسه، ولم تدّخر جهدا في هذا السياق، بل ذهبت إلى بلورة عقيدة في المتوسط، أنه لا بد من وقف الدعم للمغرب و"فرملة تقدّمه"، حتى لا يختلّ الميزان لفائدته أمام تونس والجزائر! ولم تفلح هذه الرغبة في تقليم الدور الجيوـ استراتيجي للمغرب من خلال دفع أميركا نحو التراجع، وأدّت، من بعد، إلى تراجع إسبانيا وألمانيا، في توقيت متقارب للغاية، وإعلان الدعم الصريح للحكم الذاتي في الصحراء المغربية. وكان واضحا أن المغرب كان قد تقدّم بمسافاتٍ مهمةٍ عن قراءة ألمانيا وإسبانيا التوجهات الجديدة للولايات المتحدة من جهة، والموقع الجديد للمغرب في المعادلة الجيواستراتيجية في المنطقة من جهة ثانية. ونظرا إلى العجز عن تغيير موقف أميركا، التحقت الدولتان بموقفها، فكانت البداية من ألمانيا، وأعقبتها إسبانيا في أقل من شهر، بل كان واضحا أن ألمانيا ساعدت إسبانيا في إنضاج الموقف الجديد من القضية المقدّسة بالنسبة للمغرب.
لم يكن الرهان الصحراوي في إسبانيا خارجيا محضا، بل كان عليها، من جهة المطبخ الداخلي، أن تحسم تناقضاتها إزاء الانفصال الذي توفر له تسهيلاتٍ مدنيةً وسياسيةً وماليةً في الصحراء، في حين تطارده عبر عواصم أوروبا عندما يتعلق بها هي وبأراضيها، فكان عليها أن تجد الانسجام المطلوب بين تطوير علاقتها مع المغرب، إذ صارت الشريك الاقتصادي الأول له، خلفا لفرنسا التقليدية، والموقف السياسي الذي وضعه المغرب شرطا جيوسياسيا لاستئناف العلاقة غداة الأزمة التي نشأت بسبب استقبال مدريد زعيم الانفصاليين، إبراهيم غالي، تحت اسم محمد بن بطوش، والقصة صارت معروفة.
أثبتت مدريد أن كل شيء يتغيّر في شمال أفريقيا وغرب المتوسط إلا النظام الجزائري الذي حافظ على ثابت واحد، محاربة المغرب
ماذا تريد إسبانيا؟ أجابت بأنها تختار المغرب، وتتجاوز المحاولة شبه المستحيلة للتوفيق بين الانفصال في الصحراء والاستفادة من التعاون مع المغرب الذي يرفضه ويقاتل من أجل ألا يكون، باختيار واقعي وجريء في آن. وأثبتت مدريد، في هذا، أن كل شيء يتغير في شمال أفريقيا وغرب المتوسط إلا النظام الجزائري الذي حافظ على ثابت واحد، محاربة المغرب، المنافس الوحيد في العقيدة النظامية العسكرية للقيادة في الجزائر.
ولعل أولى حلقات النفوذ الإسباني التي سيلمسها التغيير هي الاتحاد الأوروبي، خصوصا المحكمة التي ظلت ساحة حربٍ مفتوحة بدعم من النواب الإسبانيين، الاشتراكيين واليساريين، والذين يعدّون مرجعياتٍ في مناهضة المغرب، ومؤكّد أن الدعوة الانفصالية ستفقد ذراعا قوية. ومن المفيد إثارة الانتباه إلى تزامن قوي بين مواقف هذا الاتحاد والموقف الجديد في مدريد. كبداية، صدر بيانٌ من مفوضية الاتحاد، تعلن أنه لا توجد دولة في هذا التكتل الأوروبي تعترف بالجمهورية الصحراوية في تندوف، وهو ما قرأته الرباط تجاوبا معها، إذ ظلت تطالب أوروبا بالخروج من الالتباس الرمادي في مواقفها، وأن تحذو حذو أميركا. ولطالما كانت تعليقات "مأذونة" تعدّ ذلك نوعا من "الأستاذية المغرورة" من الرباط بسبب الدعم الأميركي. والحقيقة أن ما كانت تعدّه أوساط سياسية وإعلامية منحازة لأطروحات ضد الرباط "غرورا جيواستراتيجيا" مغربيا، بسبب الدعم الأميركي، كان دليلا على القراءة الصحيحة التي قام بها المغرب، للتحوّل الحاصل في غرب المتوسط شمال أفريقيا وشرق المتوسط، وفي العالم الجديد، ضمن الرؤية الأميركية المقبلة.
سيُرخي موقف إسبانيا بظلاله على حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فمدريد هي العاصمة المقبلة للحلف الذي سيناقش "المفهوم الاستراتيجي" له، في مؤتمر تشتغل عليه دول الحلف منذ سنتين على الأقل. وقد قال أمين عام الحلف، جينس ستولتنبرغ، إن "المفهوم الاستراتيجي في مؤتمر مدريد سيكون انعكاسا للمحيط الأمني الحالي، وسيشدّد على قيمنا ووحدتنا، وسيتيح لتحالفنا أن يكون قادرا على مواجهة المستقبل". وواضح أن المصطلح الغالب هو الأمن والاستقرار، وهو نفسُه الذي ورد في رسالة الاعتراف الإسباني بالحكم الذاتي في الصحراء، باعتباره "القاعدة" الأساسية للحل.
لا يمكن لمدريد أن تلعب دورها كاملا بدون انسجام مع الوضع الجديد في علاقات المغرب والولايات المتحدة في شمال أفريقيا
كان الموقف الأميركي، وبعده الألماني والإسباني، مقدّمة لتحوّل في الموقف من توازنات المتوسط واختلالاته، وبالتالي، لأدوار كل عاصمة على حدة. ولعل التحول الأكبر كان عودة أميركا نحو أوروبا، واستعادة فضائها المتوسطي. ولا يمكن لمدريد أن تلعب دورها كاملا بدون انسجام مع الوضع الجديد في علاقات المغرب والولايات المتحدة في شمال أفريقيا، كما أن المحيط الأمني ما زال عرضةً للاضطراب، بواسطة التطرّف الجهادي و"داعش" و"القاعدة"، ولا يستبعد كل المحللين تناثر شظايا الحرب الروسية الأوكرانية في الفضاء المتوسطي والأوروبي، عبر ما صارت تسمّى "الحرب الهجينة". ودور المغرب، الذي يرأس منظمات دولية كثيرة في شؤون الإرهاب، وسيستضيف اجتماع "التحالف الدولي ضد داعش" في شهر يونيو/ حزيران المقبل له دور كبير في الحفاظ على هذا الأمن المشترك. ويكفي أن إسبانيا ذاتها منحت مدير المخابرات المغربية، عبد اللطيف الحموشي، أعلى وسام استحقاق في بروتوكولاتها.
لعل أقوى تغيّر هو الذي عبرت عنه مدريد التي جاورت قضية الصحراء قرابة نصف قرن، كما أنها ستمرّ في دول أخرى ضمن نفوذها "المرن"، مثل أميركا اللاتينية، وفي الاتحاد الأوروبي، وستفرض علي جارة المغرب الشرقية الجزائر أن تعيد قراءة المواقف على ضوء التغيرات الكثيرة التي تهزّ طبقات الجغرافيا السياسية تحت قدميها.