فلسطين قضية كروية
ليس في مونديال قطر فقط، بل في كل المناسبات الرياضية الأخرى، باتت فلسطين تحضر على نحو عميق ومذهل يعوّض التغييب العمدي لها في المحافل الأخرى، السياسية والاقتصادية والثقافية.
أشكال عديدة من الخذلان عانت منها قضية فلسطين في مناسبات أخرى، بعيدًا عن الرياضة وكرة القدم تحديدًا، إذ يبقى التطبيع الرياضي هو الأقل حصولًا، وإنْ حصل فيكون اضطرارًا وعلى استحياء ويتبعه الاعتذار والندم، للجمهور ولفلسطين.
خذلها المثقفون الذين انخرطوا في دوائر دولية وإقليمية من التطبيع الثقافي، غير مكتفين بممارسته، بل راحوا يتهمون رافضيه بالجهل والرجعية والانعزال عن الواقع، ذلك الواقع المصطنع المزيّف الذي يريدون فرضه على الجميع، باعتباره من الحقائق التاريخية والجغرافية، من دون أن يهتزّ لهم جفن أو يخجلوا من الأرشيف الذي يمتلئ بصفحاتٍ من نضالهم القديم ضد الصهيونية والامبريالية والاستعمار، تلك الشعارات التي أحرقوها وأدخلوا بدلًا منها منتجات ورش ثقافة السلام.
وكما ذكرت سابقًا، وجدت ثقافة السلام هذه دعمًا هائلًا على كل الأصعدة، محليًا وإقليميًا وعالميًا، فنسفت من أجلها مناهج التعليم نسفًا، وانعقدت لها المؤتمرات، وأنتجت خصيصًا لها أفلام سينمائية فاخرة الصنع، وتكوّنت جمعيات وتشكلت كيانات، وسيّرت الزيارات والأفواج، السياحية والسياسية، فيما حورب رافضو هذا المسار داخليًا وخارجيًا.
يجيد المثقفون فنون السفسطة وينقلونها بالعدوى إلى مديريهم فيتنافسون في اختراع المبرّرات، أو بالأحرى الأباطيل الفكرية والثقافية التي تدعم هرولتهم على مضمار التطبيع بوصفه الطريق المضمون إلى العالمية، بجوائزها وأسفارها ومكافآتها، ناهيك عن فرص النشر والترجمة، بحيث لا يجد أحدهم غضاضةً في صدور أعماله بالعبرية لتباع لجمهور الاحتلال في مكتبات تل أبيب والقدس المحتلة.
أما عن الخذلان الذي تلاقيه فلسطين في ميادين السياسة، فيمكنك أن تتحدّث لسنة قادمة عن مظاهر التطبيع الرسمي بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، إلى الحد الذي بات يُحرج إسرائيل نفسها ويصيبها بالتخمة، إذ تجد عواصم عربية تتعارك على من يكون أقرب لها وأبعد عن فلسطين، حتى صارت نقطة دم الفلسطيني المقاوم أرخص عند حكوماتٍ عربيةٍ وإسلاميةٍ من قطرة من الغاز الطبيعي المسال.
وحدها الرياضة تقف حائط صد وتقاوم ببسالة الآن، من نجوم ألعابٍ فرديةٍ يحملون اسم فلسطين ورايتها عند كل انتصار، إلى جماهير لا تجد مكانًا للتعبير عن حبها فلسطين وكراهيتها الاحتلال سوى مدرّجات ملاعب كرة القدم، تلك الرياضة التي تحوّلت من لعبة إلى عملية ديمقراطية كاملة يعيشها الشعب العربي، بل ربما هي الإطار الديمقراطي الوحيد الذي يستطيع أن يعلن رأيه من خلاله، مديرًا ظهره لما تقوم به الحكومات العربية من أعمال التطبيع الفاضح.
هكذا كانت فلسطين حاضرة في المدرجات وفي محيط ملاعب مونديال قطر، يحملها في قلبه وفي صوته جمهور يسخر من الوجود الصهيوني الذي فُرِضَ رسميًا في هذه النسخة من المونديال، فكانت عبقرية الجماهير واللاعبين تتجلّى في كل مباراة يكون أحد طرفيها فريقًا عربيًا، بالتوشّح بالعلم الفلسطيني داخل الملعب، أو بالرفض البليغ والصريح لوسائل الإعلام الصهيونية المنتشرة كالبعوض في فعاليات المونديال.
فلسطين عربية والاحتلال إلى زوال، قالها كبار وصغار على هامش المونديال، من غرب الخريطة العربية إلى مشرقها، وهكذا تبقى كرة القدم وحدها تستر عورات السياسة العربية، وتطمئننا على أنفسنا وتطمئن فلسطين علينا.