فلسطين الأفريقية
لم يكذب أمين عام جامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، حين صرح قبل أيام إن حديث الإسرائيليين إن العرب أصبحوا أصدقاء لهم ليس حقيقيًا. المؤكّد أن تعبير الصداقة لم يعد مناسبًا على الإطلاق لوصف علاقات بعض العرب بإسرائيل، إذ تجاوزت الإجراءات على الأرض مفهوم الصداقة، تمامًا كما أصبحت كلمة "التطبيع" مفردة ضعيفة للغاية، للتعبير عن حقيقة العلاقات العربية الإسرائيلية، في ظل هذه التحالفات والشراكات المعلنة في الجوانب العسكرية والاقتصادية، فحين تجد أن خطًا مباشرًا سيبدأ تشغيله خلال الأيام المقبلة للسفر من دمياط إلى موانئ الاحتلال الإسرائيلي، وأن حجم التبادل التجاري بين القاهرة وتل أبيب يقترب من 700 مليون دولار سنويًا، وأن رأس النظام يعلن بكل سرور أن الوقت قد حان لدمج إسرائيل في المنطقة، فأنت بصدد ما هو أبعد من الصداقة والتطبيع.
وحين تشاهد على فترات متقاربة زيارات عسكرية متبادلة من المستوى الرفيع بين الرباط وتل أبيب، فأنت هنا أمام شراكة استراتيجية تتجاوز مفهوم التطبيع. وحين يصبح الالتزام بانعقاد "منتدى النقب" السنوي الذي يضم دولًا عربية وإسرائيل أكبر من الالتزام بأنشطة جامعة الدول العربية، فإن هذه تكون علاقات تعاون وشراكة تؤذي فلسطين أكثر من كونها أنشطة تطبيعية.
من هنا، لا يعد الأمر مفاجئًا على الإطلاق، عندما تجد الجزائر هي الدولة العربية الوحيدة في الاتحاد الأفريقي التي تشارك في جبهة أفريقية لمواجهة التوغل الصهيوني في عمق القارّة السمراء، وهي المواجهة التي شهدت أحدث فصولها أول من أمس بقيادة الجزائر حراكًا دبلوماسيًا نجح في طرد ممثلي الكيان الصهيوني من القمة الأفريقية المنعقدة في أديس أبابا.
كانت الجزائر كذلك رائدة لجهد أفريقي رائع في قمة العام الماضي من أجل تعليق القرار المنفرد والمعيب الذي اتخذه الرئيس السابق للاتحاد بمنح الكيان الصهيوني عضوية الاتحاد بصفة مراقب، ونجحت في الحشد، رفقة جنوب أفريقيا والكونغو الديمقراطية والكاميرون ونيجيريا، لإحباط عملية دمج إسرائيل في أفريقيا، وهي العملية التي دشّنها رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو في العام 2016 بجولة شملت سبع دول أفريقية قال عنها: "إنني أخرج الآن في زيارة تاريخية في أفريقيا، نحن نفتح أفريقيا أمام إسرائيل من جديد".
في تلك المعركة الدبلوماسية الباسلة، اكتفت مصر بالفرجة، ثم حين انتصرت أفريقيا لفلسطين صفقت وباركت، بينما اختارت دولة عربية أفريقية أخرى، هي المملكة المغربية، التي يسمّي ملكها نفسه رئيس لجنة القدس، دعم قرار قبول عضوية العدو الذي يحتل القدس وفلسطين. بينما لم ينطق الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط بكلمة قبل مناقشة القرار، لكنه حضر بعد إسقاط القرار ليعبر عن ترحيب الجامعة بهذه الخطوة.
مؤسفٌ حقًا أن تتضاءل مصر الأفريقية إلى الحد الذي تكتفي فيه بالمشاهدة فيما خصّ العلاقات الرسمية بين أفريقيا والكيان الصهيوني، معلنة انسحابها المدوّي من دورها التاريخي في القارّة، على نحو غير مسبوق في كل فترات الانكفاء على الذات والانخراط في علاقات تطبيع ثنائية مع إسرائيل.
في تبرير الانسحاب المروّع من الدور التاريخي في الصراع العربي الفلسطيني بعد "كامب ديفيد"، كتب بطرس غالي وزير الدولة للشؤون الأفريقية في زمن أنور السادات في كتابه "بين النيل والقدس": إذا كان لا بد من الاختيار بين العالم العربي وأفريقيا، فماذا سيكون خيارنا؟ باختصار، ما هو الأهم بالنسبة لمصر: النيل رمز المستقبل أم القدس، رمز التاريخ؟ ما هو الأهم: الجغرافيا أم التاريخ؟
ولا يتأخّر الرجل في الإجابة بالذهاب إلى أن الجغرافيا أهم من التاريخ، وأن اهتمام مصر ينبغي أن يكون بأفريقيا والنيل، لا بالقدس وفلسطين، لكن حتى هذا لم يعد قائمًا بعد أن استقالت مصر الرسمية من الاثنين التاريخ (القدس وفلسطين) ومن الجغرافيا (النيل وأفريقيا) لتبدو دولٌ، مثل جنوب أفريقيا ونيجيريا والكونغو الديمقراطية، أكثر عروبة في علاقتها بقضية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
في ظل المعطيات الراهنة، صارت قضية فلسطين تجد لها عمقًا حقيقيًا في أفريقيا أكثر مما تجده في محيطها العربي، الغارق في علاقاته الثنائية الساخنة مع الاحتلال، لكنه وبمنتهى النفاق لا يمانع في اعتبار نفسه شريكًا في النضال الأفريقي ضد التوغّل الصهيوني.