04 نوفمبر 2024
فلسطينيو العراق.. مستقبل اللاجئين وحقوقهم "غير الطبيعية"
بات الفلسطينيون اليوم الحلقة الأضعف في الاضطرابات الاجتماعية السياسية التي تعصف اليوم بعالمنا العربي. ولعل العراق اليوم، والذي يمثل حالة نموذجية للطائفية السياسية والصراعات العرقية والمذهبية المتفشية عربيا، يمثل أيضا حالةً نموذجيةً لتصفية قضية اللاجئين الفلسطينيين، تصفية ممنهجة، تستهدف مجالاتهم السوسيولوجية، وحقوقهم الإنسانية والسياسية.
الضيوف وأهل الدار
بانسحابه من فلسطين عائدا إلى العراق بعد هزيمة العام 1948، نقل الجيش العراقي معه عشرات العائلات الفلسطينية من قرى إجزم، وجبع، وعين غزال، في قضاء حيفا. انضمّت إلى هؤلاء الذين شكّلوا غالبية اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق عائلاتٌ قَدِمَت من يافا ونابلس والقدس، وكانت الفلوجة قد أطلقت في حينه حملة بعنوان "أهل الدار لا ضيوف"، استقبلت خلالها فلسطينيين قدموا من الأردن وسورية.
أعقبت تلك الموجة الأولى من اللجوء الفلسطيني إلى العراق، موجات جديدة، كانت إحداها على أثر نكسة العام 1967، وأخرى كانت نتيجة حرب الخليج الثانية، بعد طرد الفلسطينيين من الكويت ودول خليجية أوائل التسعينيات، عقابا لهم على تعاطفهم مع ديكتاتور العراق الراحل صدام حسين، ليبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في العراق بين عامي 1948و2013 قرابة 34000 لاجئ، وفق إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
منذ وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق في 1948، والذين بلغ تعدادهم آنذاك حوالي خمسة آلاف فلسطيني، تولّت السلطات العراقية توزيعهم على مناطق مختلفة، وبالإضافة إلى الموصل شمالا، والبصرة جنوبا، استقرّت تجمعاتهم في العاصمة بغداد في عدد من أحيائها؛ كالبلديات والسلام والزعفرانية والأمين وبغداد الجديدة وغيرها. ورفضت الحكومة العراقية آنذاك أن تؤدي "أونروا" أي دور إغاثي للاجئين الفلسطينيين على أراضيها، في مقابل تعهدها بتوفير احتياجاتهم الضرورية عبر وزارة الدفاع التي تكفّلت بهم حتى أواخر 1950، لينتقل ملفهم إلى رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية وإشرافها.
انحصر معظم اللاجئين ضمن تجمعاتهم المذكورة في ظروفٍ سكنيةٍ سيئة، ولم تتجاوز الخدمات السكنية الممنوحة لهؤلاء طيلة وجودهم في العراق 15%- 20% من احتياجاتهم الحقيقية، وأتاحت الأوضاع الاقتصادية الجيدة للبعض القليل منهم السكن خارج تجمعات الفلسطينيين التقليدية. تحسنت أوضاعهم بعد أن نظمت قوانين عديدة صادرة عن السلطات العراقية المختصّة الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين، ليستقر عند معاملتهم كعراقيين، بموجب القانون رقم 51 للعام 1971، والقانون 202 الصادر عن مجلس قيادة الثورة العراقي في 12 سبتمبر/ أيلول 2001، باستثناء الجنسية والحقوق السياسية، مع إعفائهم من خدمة العلم.
ثمن اللجوء المستمر
تدهورت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين بوتيرة متسارعة منذ الاحتلال الأميركي للعراق العام
2003، ودفعوا ثمن لجوئهم المستمر في العراق، لتنكّل بهم أطراف متعددة. فبعد أسابيع قليلة من احتلال بغداد، هاجمت قوة أميركية مبنى السفارة الفلسطينية، لتقتحمه وتصادر وثائق ومعلومات، وتعتقل موظفين وديبلوماسيين. كما قصفت قوات أميركية تجمّع الفلسطينيين في حي البلديات، متسببة في مقتل وجرح حوالي 60 فلسطينيا، ودمرت مباني سكنية. و في العام نفسه (2003) تعرّضت 344 أسرة فلسطينية للتهجير القسري من مليشيات طائفية مسلحة.
ومع احتدام الصراع الطائفي، بعد تفجير مرقد الإمام العسكري العام 2006، توسّل الفلسطينيون الهجرة، حفاظا على أرواحهم، وعلق بعضهم على حدود العراق مع دول عربية مجاورة في الصحراء أكثر من عامين ونصف العام، بعد أن رفضت حكومات تلك البلدان استقبالهم، بينما منعتهم حكومة نوري المالكي من العودة إلى بغداد. ويبدو أنه كان هناك فارق شاسع بين قبض أثمان اقتصادية وسياسية لقاء استقبال بضعة ملايين من لاجئين عراقيين وتحمل تبعات استضافة مئات أو عشرات من اللاجئين الفلسطينيين الذين وضع حدا لمأساتهم، في نهاية المطاف، توسّط الأمم المتحدة التي أمّنت لجوءهم إلى دول "شقيقة "غير عربية (منها السويد والنرويج ودول في أميركا اللاتينية)، أما السودان فكانت البلد العربي الوحيد الذي أعرب عن استعداده لاستقبال عدد من هؤلاء اللاجئين.
كما دفعت هجمات المليشيات الطائفية التي احتدمت في العام 2013 آلافا من اللاجئين الفلسطينيين إلى هجرة جديدة نحو تركيا، وماليزيا، وتايلاند، وإندونيسيا، والهند، وغيرها، أقام الفلسطينيون في معظمها، في ظل ظروف قاسية، مهدّدين بالطرد والاعتقال.
اجتثاث ممنهج
لأسباب طائفية وسياسية، اعتبر الفلسطينيون جزءا من أجندة عربية معادية للعراق. ووفقا للسفارة الفلسطينية في بغداد؛ قتل ما بين 2003 و2016 أكثر من 300 لاجئ فلسطيني على يد جماعات مسلحة. ومما زاد أوضاعهم سوءا أن الحكومات العراقية المتعاقبة، والخاضعة للوصايتين، الخارجية والإقليمية، لا تعترف بهم، كونهم يحملون هويّاتٍ منحت لهم أيام الرئيس العراقي المخلوع صدّام حسين، ولم تمنحهم تلك الحكومات هويّات جديدة. وبتركهم من دون غطاء قانوني، مع النظر إليهم بوصفهم "أحباب صدّام"، أو "أزلام البعث"، أو بوصفهم سنّة، تّم النظر إلى حقوقهم وامتيازاتهم على أنها "حقوق غير طبيعية"، واستهدفوا بعمليات خطف وتعذيب وابتزاز مالي، من الحكومة العراقية، والمليشيات الطائفية، ونظر إليهم أمنيا بوصفهم مشاريع إرهابية، ولتجمعاتهم بوصفها بيئاتٍ حاضنةً للإرهاب. ولغاية التحريض على اللاجئين، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي تقارير ملفّقة، منسوبةٌ لجهاتٍ رسمية عراقية، تشير إلى تورّط فلسطينيين في أعمال إرهابية، ادّعى أحدُها، أواسط العام 2017، منسوبا إلى وزارة الداخلية العراقية، أن الفلسطينيين احتلوا المرتبة الأولى في أعداد الانتحاريين العرب الذين فجّروا أنفسهم في العراق ما بين العام 2007 و2013.
لم يسلم الفلسطينيون، أيضا، من إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فبعد سيطرة الأخير
على الموصل، العام 2014، هرب الفلسطينيون من بطشه إلى مخيم بحركة في أربيل، ولم يستطيعوا العودة، بعد تدمير بيوتهم، وخشيتهم من بطش المليشيات الطائفية في عملياتٍ انتقامية، كما أبلغ التنظيم إبّان سيطرته على الأنبار 17 عائلة فلسطينية بوجوب مغادرة بيوتها، فنزحت إلى كركوك في كردستان العراق.
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ استغلت عشائر مجاورة لتجمعهم الأكبر في حي البلديات (788 وحدة سكنية)، الفوضى الأمنية لتهديدهم، وإجبارهم على غلق محالهم التجارية، ومغادرة مساكنهم، مع التمدّد والاستيلاء على المساحات الفارغة (حدائق أو ساحات) القليلة المتبقية ضمن الحي.
اتهمت منظمات عديدة، في تقاريرها، الاحتلال الأميركي، والحكومة العراقية ومليشيات طائفية، بانتهاكاتٍ ضد حقوق الإنسان، مورست بحق اللاجئين الفلسطينيين، وممارسة الاجتثاث الممنهج، والتطهير العرقي والطائفي بحقهم (راجع تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا في مايو/ أيار 2016، وتقرير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في 7 يوليو/ تموز 2012). وثّقت تلك التقارير عمليات قتل وتهجير واعتقال تعسفي وتعذيب، وأحكاما جائرة مستندة إلى تهم ملفّقة، إضافة إلى الاحتجاز في ظروفٍ غير لائقة، بعضُهم في سجون سرّية، جوُّعوا وحُرموا من العلاج. كما وثقت حالات اقتحام لبيوت اللاجئين، وحمّلت وزارة الداخلية العراقية المسؤولية عن تفاقم أوضاعهم، لعدم حمايتهم وعرقلة تصاريح الإقامة الخاصة بالأجانب، وتقليصها من ثلاثة أشهر إلى شهر.
الفلسطينيون بوصفهم أجانب
نشرت صحيفة العربي الجديد، في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وثيقة ذكرت أنها صادرة عن مكتب الرئيس العراقي فؤاد المعصوم، تظهر مصادقته في الشهر نفسه على قانون إقامة الأجانب رقم 76، والذي ينصّ على إلغاء القوانين الصادرة عن مجلس قيادة الثورة العراقي (المنحل)، بما فيها القانون 202 وامتيازاته، ليضع القانون 76 اللاجئ الفلسطيني ضمن خانة المقيمين الأجانب بلا أي امتيازاتٍ أخرى. وأوضحت الصحيفة أن القانون صار نافذاً بعد إقراره ونشره في جريدة الوقائع العراقية الرسمية بالعدد 4466.
كان القانون 202 الصادر عن مجلس قيادة الثورة العراقي في 12 سبتمبر/ أيلول 2001 قد نصّ على أن تتم معاملة الفلسطيني كالعراقي في جميع الامتيازات، وحقوق المواطنة، باستثناء حصوله على الجنسية العراقية، بما في ذلك منحه الحق في التوظيف والعمل في دوائر الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى حقه في التعليم والصحة المجانيين، والعمل والتقاعد، والبطاقة الغذائية الشهرية، والسكن المجّاني، والإعفاء الضريبي. كما تتضمن الامتيازات إصدار وثائق سفر تمكّنه من السفر إلى خارج العراق، وإلزام السفارات العراقية خارج البلاد بمعاملته، حال مراجعته لها، كمواطن عراقي، فضلاً عن حق الاقتراض والمعاملات البنكية المختلفة، وأي امتيازات أخرى.
بعد ضجةٍ أثارها نشر الصحيفة للوثيقة، وعلى الرغم من أن القانون الجديد قد عرّف الأجنبي
بأنه "كل من لا يحمل الجنسية العراقية"، من دون أي استثناء صريح أو مضمر للاجئين الفلسطينيين، ادّعى بيان الأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي في ديسمبر/ كانون الأول 2017 أن القرار لم يتطرّق إلى مسألة اللجوء، لا من قريب ولا من بعيد، بحجة أن أوضاعهم ما زالت معالجة بموجب قانون اللاجئين رقم 51 لسنة 1971، وشدّدت على أن حقوق الفلسطينيين في العراق ثابتة ومحترمة. وعلى الرغم من المواربة في تفسير القانون، ونفي مسؤولين عراقيين من مستوياتٍ مختلفةٍ أن تكون تلك القوانين قد طبّقت على المقيمين الفلسطينيين، كانت الإجراءات الفعلية تشير إلى غير ذلك، وهو ما تأكد اليوم الذي تجتهد فيه وزاراتٌ ومؤسساتٌ ودوائر حكومية عراقية علنا في حرمان الفلسطينيين من امتيازاتهم، بوصفهم جزءا من العرب والأجانب المقيمين الذين يشملهم القانون 76.
وكان أبرز تلك الإجراءات ما اتخذته أخيرا دائرة التقاعد العامة، ووزارة التجارة، وتمثّل في سحب البطاقة الغذائية الشهرية عن الفلسطينيين والتي يصعب على العائلة في العراق الاستغناء عنها، ومنع الحقوق التقاعدية للفلسطيني المتوفّى، وحرمان ورثته. اتخذت أيضا قراراتٌ أخرى تتعلق بالطلاب، والوظائف، وإعادة فرض رسوم الصحة والتعليم والخدمات المختلفة عن الفلسطينيين بعد إعفائهم، وحرمانهم من التقدّم بطلبات للحصول على سكنٍ ضمن المشاريع الحكومية، كذلك حرمانهم من الاستفادة من القانون 21 الخاص بتعويض ضحايا العمليات الإرهابية، والأخطاء العسكرية التي ارتكبتها القوات الأميركية أو العراقية.
أي مستقبل للاجئين؟
وفق تقديرات غير رسمية، يوجد اليوم في العراق ما بين أربعة آلاف وستة آلاف لاجئ فلسطيني، هم الأفقر والأكثر بؤسا، مقارنةً بأشقائهم اللاجئين في دول الشتات الأخرى، سيما مع التباس وضعهم القانوني، نتيجة غياب اعتراف حكومي بهم، وعدم تمتعهم بأي حمايةٍ دولية، فهم لا يقعون ضمن مناطق عمل "أونروا" وخدماتها الإغاثية، ولا تعترف بهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
يدفع اللاجئون الفلسطينيون، وإخوتهم العرب سواء بسواء، اليوم، ثمن تصديقهم وهم مركزية القضية الفلسطينية الذي لم يخدم إلا رغبة الحاكم العربي المستبد في الفصل بين معركتي التحرير والتحرّر، وتغييب الثانية لصالح الأولى، ما كرّس فشلا ذريعا في معركة التحرير، واستعصاءً في الحراك الشعبي المتأخر على طريق التحرّر في مواجهة البنى الاستبدادية المتجذّرة، ما هدد كيان الدولة، وفتّت مجتمعها، حتى صرنا في شرقنا الأوسط الكبير "كلنا في البحر ماء"، بتعبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وضحايا في مواجهة ضحايا.
على الفلسطينيين اليوم أن يسألوا أنفسهم ما إذا كان بإمكانهم التعويل على تعاطف أو دعم رسمي عربي لم تعد قضيتهم أحد أولوياته؟ أو المراهنة على تعاطف شعوب عربية منهكة ومحبطة نفسيا، ومفكّكة اجتماعيا، ومنقسمة سياسيا – مذهبيا، وهي أبعد ما تكون عن نيل حقوقها، ناهيك عن ضمان الحفاظ معها على علاقاتٍ متوازنةٍ سليمة، تخلو من الكراهية، والتحريض، والرغبة في الانتقام؟ ففي ظل الاستهداف المُمنهج والمتعمّد لوجودهم، بتواطؤ عربي رسمي، ولامبالاة شعبية متزايدة، وعجز رسمي فلسطيني سياسي وتمثيلي، ماذا يبقى أمام الفلسطينيين سوى إعادة تنظيم لجوئهم بعيدا عن حدود فلسطين التاريخية إلى تلك الدول غير الشقيقة التي هاجروا إليها، وما زالوا، قسرا أو طواعية؟ ألم تمحُ تلك الدول ماضيها الاستعماري الأسود بتمسّكها بحقوق الإنسان وبدولة القانون، وما زالت، على الرغم من رياح الشعبوية والعنصرية والتطرّف التي تهب عليها بين حين وآخر، تمنح اللاجئين حقوقا للمواطنة غير مشروطة بالعرق، أو الدين، أو المذهب، وغير محكومة بالشعارات والديماغوجيا، ولا يوجد في ثقافاتها السائدة ما تسمى "حقوقا غير طبيعية" ممنوحة لبني البشر؟
هل توفر تلك الدول لهؤلاء اللاجئين طريقا أقصر إلى فلسطين، وحقهم في العودة إليها؟ وهل في وسع هؤلاء اللاجئين توليد آليات جديدة، وأساليب مبتكرة، ومتنوعة للنضال الوطني، باتت مستحيلة في دول حفرت قبر مستقبلها بمعاول الطائفية السياسية والاستبداد؟ نعتقد أنها تساؤلات تستحق التأمل فلسطينيا.
الضيوف وأهل الدار
بانسحابه من فلسطين عائدا إلى العراق بعد هزيمة العام 1948، نقل الجيش العراقي معه عشرات العائلات الفلسطينية من قرى إجزم، وجبع، وعين غزال، في قضاء حيفا. انضمّت إلى هؤلاء الذين شكّلوا غالبية اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق عائلاتٌ قَدِمَت من يافا ونابلس والقدس، وكانت الفلوجة قد أطلقت في حينه حملة بعنوان "أهل الدار لا ضيوف"، استقبلت خلالها فلسطينيين قدموا من الأردن وسورية.
أعقبت تلك الموجة الأولى من اللجوء الفلسطيني إلى العراق، موجات جديدة، كانت إحداها على أثر نكسة العام 1967، وأخرى كانت نتيجة حرب الخليج الثانية، بعد طرد الفلسطينيين من الكويت ودول خليجية أوائل التسعينيات، عقابا لهم على تعاطفهم مع ديكتاتور العراق الراحل صدام حسين، ليبلغ عدد اللاجئين الفلسطينيين في العراق بين عامي 1948و2013 قرابة 34000 لاجئ، وفق إحصائيات وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
منذ وصول اللاجئين الفلسطينيين إلى العراق في 1948، والذين بلغ تعدادهم آنذاك حوالي خمسة آلاف فلسطيني، تولّت السلطات العراقية توزيعهم على مناطق مختلفة، وبالإضافة إلى الموصل شمالا، والبصرة جنوبا، استقرّت تجمعاتهم في العاصمة بغداد في عدد من أحيائها؛ كالبلديات والسلام والزعفرانية والأمين وبغداد الجديدة وغيرها. ورفضت الحكومة العراقية آنذاك أن تؤدي "أونروا" أي دور إغاثي للاجئين الفلسطينيين على أراضيها، في مقابل تعهدها بتوفير احتياجاتهم الضرورية عبر وزارة الدفاع التي تكفّلت بهم حتى أواخر 1950، لينتقل ملفهم إلى رعاية وزارة الشؤون الاجتماعية وإشرافها.
انحصر معظم اللاجئين ضمن تجمعاتهم المذكورة في ظروفٍ سكنيةٍ سيئة، ولم تتجاوز الخدمات السكنية الممنوحة لهؤلاء طيلة وجودهم في العراق 15%- 20% من احتياجاتهم الحقيقية، وأتاحت الأوضاع الاقتصادية الجيدة للبعض القليل منهم السكن خارج تجمعات الفلسطينيين التقليدية. تحسنت أوضاعهم بعد أن نظمت قوانين عديدة صادرة عن السلطات العراقية المختصّة الوضع القانوني للاجئين الفلسطينيين، ليستقر عند معاملتهم كعراقيين، بموجب القانون رقم 51 للعام 1971، والقانون 202 الصادر عن مجلس قيادة الثورة العراقي في 12 سبتمبر/ أيلول 2001، باستثناء الجنسية والحقوق السياسية، مع إعفائهم من خدمة العلم.
ثمن اللجوء المستمر
تدهورت أوضاع اللاجئين الفلسطينيين بوتيرة متسارعة منذ الاحتلال الأميركي للعراق العام
ومع احتدام الصراع الطائفي، بعد تفجير مرقد الإمام العسكري العام 2006، توسّل الفلسطينيون الهجرة، حفاظا على أرواحهم، وعلق بعضهم على حدود العراق مع دول عربية مجاورة في الصحراء أكثر من عامين ونصف العام، بعد أن رفضت حكومات تلك البلدان استقبالهم، بينما منعتهم حكومة نوري المالكي من العودة إلى بغداد. ويبدو أنه كان هناك فارق شاسع بين قبض أثمان اقتصادية وسياسية لقاء استقبال بضعة ملايين من لاجئين عراقيين وتحمل تبعات استضافة مئات أو عشرات من اللاجئين الفلسطينيين الذين وضع حدا لمأساتهم، في نهاية المطاف، توسّط الأمم المتحدة التي أمّنت لجوءهم إلى دول "شقيقة "غير عربية (منها السويد والنرويج ودول في أميركا اللاتينية)، أما السودان فكانت البلد العربي الوحيد الذي أعرب عن استعداده لاستقبال عدد من هؤلاء اللاجئين.
كما دفعت هجمات المليشيات الطائفية التي احتدمت في العام 2013 آلافا من اللاجئين الفلسطينيين إلى هجرة جديدة نحو تركيا، وماليزيا، وتايلاند، وإندونيسيا، والهند، وغيرها، أقام الفلسطينيون في معظمها، في ظل ظروف قاسية، مهدّدين بالطرد والاعتقال.
اجتثاث ممنهج
لأسباب طائفية وسياسية، اعتبر الفلسطينيون جزءا من أجندة عربية معادية للعراق. ووفقا للسفارة الفلسطينية في بغداد؛ قتل ما بين 2003 و2016 أكثر من 300 لاجئ فلسطيني على يد جماعات مسلحة. ومما زاد أوضاعهم سوءا أن الحكومات العراقية المتعاقبة، والخاضعة للوصايتين، الخارجية والإقليمية، لا تعترف بهم، كونهم يحملون هويّاتٍ منحت لهم أيام الرئيس العراقي المخلوع صدّام حسين، ولم تمنحهم تلك الحكومات هويّات جديدة. وبتركهم من دون غطاء قانوني، مع النظر إليهم بوصفهم "أحباب صدّام"، أو "أزلام البعث"، أو بوصفهم سنّة، تّم النظر إلى حقوقهم وامتيازاتهم على أنها "حقوق غير طبيعية"، واستهدفوا بعمليات خطف وتعذيب وابتزاز مالي، من الحكومة العراقية، والمليشيات الطائفية، ونظر إليهم أمنيا بوصفهم مشاريع إرهابية، ولتجمعاتهم بوصفها بيئاتٍ حاضنةً للإرهاب. ولغاية التحريض على اللاجئين، انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي تقارير ملفّقة، منسوبةٌ لجهاتٍ رسمية عراقية، تشير إلى تورّط فلسطينيين في أعمال إرهابية، ادّعى أحدُها، أواسط العام 2017، منسوبا إلى وزارة الداخلية العراقية، أن الفلسطينيين احتلوا المرتبة الأولى في أعداد الانتحاريين العرب الذين فجّروا أنفسهم في العراق ما بين العام 2007 و2013.
لم يسلم الفلسطينيون، أيضا، من إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فبعد سيطرة الأخير
لم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ استغلت عشائر مجاورة لتجمعهم الأكبر في حي البلديات (788 وحدة سكنية)، الفوضى الأمنية لتهديدهم، وإجبارهم على غلق محالهم التجارية، ومغادرة مساكنهم، مع التمدّد والاستيلاء على المساحات الفارغة (حدائق أو ساحات) القليلة المتبقية ضمن الحي.
اتهمت منظمات عديدة، في تقاريرها، الاحتلال الأميركي، والحكومة العراقية ومليشيات طائفية، بانتهاكاتٍ ضد حقوق الإنسان، مورست بحق اللاجئين الفلسطينيين، وممارسة الاجتثاث الممنهج، والتطهير العرقي والطائفي بحقهم (راجع تقرير المنظمة العربية لحقوق الإنسان في بريطانيا في مايو/ أيار 2016، وتقرير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في 7 يوليو/ تموز 2012). وثّقت تلك التقارير عمليات قتل وتهجير واعتقال تعسفي وتعذيب، وأحكاما جائرة مستندة إلى تهم ملفّقة، إضافة إلى الاحتجاز في ظروفٍ غير لائقة، بعضُهم في سجون سرّية، جوُّعوا وحُرموا من العلاج. كما وثقت حالات اقتحام لبيوت اللاجئين، وحمّلت وزارة الداخلية العراقية المسؤولية عن تفاقم أوضاعهم، لعدم حمايتهم وعرقلة تصاريح الإقامة الخاصة بالأجانب، وتقليصها من ثلاثة أشهر إلى شهر.
الفلسطينيون بوصفهم أجانب
نشرت صحيفة العربي الجديد، في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2017، وثيقة ذكرت أنها صادرة عن مكتب الرئيس العراقي فؤاد المعصوم، تظهر مصادقته في الشهر نفسه على قانون إقامة الأجانب رقم 76، والذي ينصّ على إلغاء القوانين الصادرة عن مجلس قيادة الثورة العراقي (المنحل)، بما فيها القانون 202 وامتيازاته، ليضع القانون 76 اللاجئ الفلسطيني ضمن خانة المقيمين الأجانب بلا أي امتيازاتٍ أخرى. وأوضحت الصحيفة أن القانون صار نافذاً بعد إقراره ونشره في جريدة الوقائع العراقية الرسمية بالعدد 4466.
كان القانون 202 الصادر عن مجلس قيادة الثورة العراقي في 12 سبتمبر/ أيلول 2001 قد نصّ على أن تتم معاملة الفلسطيني كالعراقي في جميع الامتيازات، وحقوق المواطنة، باستثناء حصوله على الجنسية العراقية، بما في ذلك منحه الحق في التوظيف والعمل في دوائر الدولة ومؤسساتها، بالإضافة إلى حقه في التعليم والصحة المجانيين، والعمل والتقاعد، والبطاقة الغذائية الشهرية، والسكن المجّاني، والإعفاء الضريبي. كما تتضمن الامتيازات إصدار وثائق سفر تمكّنه من السفر إلى خارج العراق، وإلزام السفارات العراقية خارج البلاد بمعاملته، حال مراجعته لها، كمواطن عراقي، فضلاً عن حق الاقتراض والمعاملات البنكية المختلفة، وأي امتيازات أخرى.
بعد ضجةٍ أثارها نشر الصحيفة للوثيقة، وعلى الرغم من أن القانون الجديد قد عرّف الأجنبي
وكان أبرز تلك الإجراءات ما اتخذته أخيرا دائرة التقاعد العامة، ووزارة التجارة، وتمثّل في سحب البطاقة الغذائية الشهرية عن الفلسطينيين والتي يصعب على العائلة في العراق الاستغناء عنها، ومنع الحقوق التقاعدية للفلسطيني المتوفّى، وحرمان ورثته. اتخذت أيضا قراراتٌ أخرى تتعلق بالطلاب، والوظائف، وإعادة فرض رسوم الصحة والتعليم والخدمات المختلفة عن الفلسطينيين بعد إعفائهم، وحرمانهم من التقدّم بطلبات للحصول على سكنٍ ضمن المشاريع الحكومية، كذلك حرمانهم من الاستفادة من القانون 21 الخاص بتعويض ضحايا العمليات الإرهابية، والأخطاء العسكرية التي ارتكبتها القوات الأميركية أو العراقية.
أي مستقبل للاجئين؟
وفق تقديرات غير رسمية، يوجد اليوم في العراق ما بين أربعة آلاف وستة آلاف لاجئ فلسطيني، هم الأفقر والأكثر بؤسا، مقارنةً بأشقائهم اللاجئين في دول الشتات الأخرى، سيما مع التباس وضعهم القانوني، نتيجة غياب اعتراف حكومي بهم، وعدم تمتعهم بأي حمايةٍ دولية، فهم لا يقعون ضمن مناطق عمل "أونروا" وخدماتها الإغاثية، ولا تعترف بهم المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
يدفع اللاجئون الفلسطينيون، وإخوتهم العرب سواء بسواء، اليوم، ثمن تصديقهم وهم مركزية القضية الفلسطينية الذي لم يخدم إلا رغبة الحاكم العربي المستبد في الفصل بين معركتي التحرير والتحرّر، وتغييب الثانية لصالح الأولى، ما كرّس فشلا ذريعا في معركة التحرير، واستعصاءً في الحراك الشعبي المتأخر على طريق التحرّر في مواجهة البنى الاستبدادية المتجذّرة، ما هدد كيان الدولة، وفتّت مجتمعها، حتى صرنا في شرقنا الأوسط الكبير "كلنا في البحر ماء"، بتعبير الشاعر الفلسطيني محمود درويش، وضحايا في مواجهة ضحايا.
على الفلسطينيين اليوم أن يسألوا أنفسهم ما إذا كان بإمكانهم التعويل على تعاطف أو دعم رسمي عربي لم تعد قضيتهم أحد أولوياته؟ أو المراهنة على تعاطف شعوب عربية منهكة ومحبطة نفسيا، ومفكّكة اجتماعيا، ومنقسمة سياسيا – مذهبيا، وهي أبعد ما تكون عن نيل حقوقها، ناهيك عن ضمان الحفاظ معها على علاقاتٍ متوازنةٍ سليمة، تخلو من الكراهية، والتحريض، والرغبة في الانتقام؟ ففي ظل الاستهداف المُمنهج والمتعمّد لوجودهم، بتواطؤ عربي رسمي، ولامبالاة شعبية متزايدة، وعجز رسمي فلسطيني سياسي وتمثيلي، ماذا يبقى أمام الفلسطينيين سوى إعادة تنظيم لجوئهم بعيدا عن حدود فلسطين التاريخية إلى تلك الدول غير الشقيقة التي هاجروا إليها، وما زالوا، قسرا أو طواعية؟ ألم تمحُ تلك الدول ماضيها الاستعماري الأسود بتمسّكها بحقوق الإنسان وبدولة القانون، وما زالت، على الرغم من رياح الشعبوية والعنصرية والتطرّف التي تهب عليها بين حين وآخر، تمنح اللاجئين حقوقا للمواطنة غير مشروطة بالعرق، أو الدين، أو المذهب، وغير محكومة بالشعارات والديماغوجيا، ولا يوجد في ثقافاتها السائدة ما تسمى "حقوقا غير طبيعية" ممنوحة لبني البشر؟
هل توفر تلك الدول لهؤلاء اللاجئين طريقا أقصر إلى فلسطين، وحقهم في العودة إليها؟ وهل في وسع هؤلاء اللاجئين توليد آليات جديدة، وأساليب مبتكرة، ومتنوعة للنضال الوطني، باتت مستحيلة في دول حفرت قبر مستقبلها بمعاول الطائفية السياسية والاستبداد؟ نعتقد أنها تساؤلات تستحق التأمل فلسطينيا.