فكرة الكتابة بين القلق والإنجاز
في كل الندوات والمحاضرات التي تكون الكتابة والنشر وهمومهما موضوعها، أجدني معنية بها مباشرة، وغالبا ما أكتشف الجديد بشأنها، وخصوصا عندما يكون المشاركون في تلك الفعاليات من الشباب الذين يجرّبون حظوظهم في الكتابة والنشر للمرّة الأولى. التجارب وأخطاؤها خير معلم كل ما نودّ أن نعلمه في كل المجالات، فما بالك بالكتابة التي تقوم على التجربة أساسا؟
قبل أيام قليلة، سعدتُ بجلسة ثقافية جميلة، عنوانها "فكرة الكتابة بين القلق والإنجاز"، استضافني فيها الملتقى الثقافي لأكاديمية قلم للنشر في الكويت، بصحبة الكاتب وخبير النشر عبدالله عيد العتيبي، ساعة عبر تطبيق زوم على الإنترنت. وكان من محاسن تنظيم هذه الجلسة عبر هذا التطبيق أن شارك فيها كثيرون من مختلف البلدان العربية، جمعهم همّ الكتابة والنشر، ودلت أسئلتهم على قلق حقيقي ينتابهم قبل الكتابة وبعدها وقبل النشر وبعده.
ورغم أننا حاولنا الإجابة، العتيبي وأنا، عمّا أسعفنا الوقت للإجابة عنه من الأسئلة، إلا أنها كانت كثيرة ومهمة، ما جعلني أعود إلى بعضها في هذه المقالة، لعلّي أستطيع التذكير بها، على الأقل بانتظار فرص جديدة للحديث!
لفتتني، على سبيل المثال، مشاركة من كاتبة شابة كتبتها بنافذة الدردشة الملحقة بالتطبيق وقالت فيها: "من بعد كتابي الأول، وكان قصصاً تاريخية في الهند، أصبت بالإحباط بسبب الناشر الذي أخبرني أنه اتجه في النشر إلى عالم الجريمة والرعب، فهذا هو الدارج بين القرّاء حاليا".
وما كتبته هذه الشابة يعبر فعلا عما يفعله ناشرون كثيرون أصبحوا كأصحاب علامات الموضة في سوق الأزياء، فهم يحدّدون مواسم للنشر، ويضعون لها عناوين مختلفة، ويجبرون الكتاب، بطريقةٍ غير مباشرة، على الانسياق وراءها بحجّة أن هذا هو الدارج حاليا، وهكذا أصبحنا نعيش في عالم الموضة في النشر، فهذا العام تغلب عليه روايات الرعب والجريمة، وبعده بعام، نجد أن أغلفة الكتب تتحدّث عن عالم النسوية، أو عالم الرحلات الغريبة، وغيرها من ظواهر أصبح كتّاب شبابٌ كثيرون أسرى لها للأسف!
من الهموم الأخرى التي وجدتها تكرّرت في أسئلة المشاركين وتعليقاتهم فكرة التردّد قبل الإقدام على خطوة النشر بسبب الخوف من ردّ فعل القراء والنقاد، خصوصا بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي سمحت للجميع بالتعليق الفوري على ما يطالعونه من كتب. وغالبا بجرأة غير محدودة، تصل أحيانا إلى حد الوقاحة. قال أحد المشاركين إن ردود الفعل والانتقادات القاسية على كتابه الأول، جعلته يُحجم عن النشر فهو يكتب لنفسه، ولا يفكّر بالنشر خوفا من تنمّر القراء عليه. وهذا الشاب بالغ في حجم تأثّره بما يكتب، فقد أرسل لي لاحقا بعض كتاباته ووجدتها جميلة جدا، أما ما اعتبره تنمّرا من القرّاء فهو انتقادات طبيعية تلقّى معظمنا مثلها، وما زلنا نتلقاها، ولكن يبدو أن بعض الكتاب حسّاسون من النقد القاسي، ما يجعلهم يعتبرونه هجوما. نصحته بمحاولة التخفيف من تلك الحساسية، وأريته بعض ما يكتب عني، فاطمأن قليلا ووعد باستئناف الكتابة والنشر .. لعل وعسى!
أما السؤال الذي ردّده أغلب المشاركين باعتباره أحد أهم معوّقات النشر فهو: من يقرأ الآن؟ ولا أدري لماذا ترسّخت فكرة عزوف الناس عن القراءة، باعتباره من معوّقات النشر! قلت لهم إن ما يدحض هذه الفكرة هو تنامي دور النشر في الوطن العربي بشكل غير مسبوق، فنحن في الكويت، على سبيل المثال، نكتشف ظهور دور نشر جديدة مع كل موسم جديد لمعرض الكتاب. ولولا وجود القرّاء لما تشجّعت دور النشر على النشر، ولما أقدم كثيرون على فتح دور جديدة بهذا العدد الكبير. القرّاء موجودون، ولو وضع كل كاتبٍ في رأسه قارئا محتملا واحدا لكتابه، لكان ذلك كافيا لأن يستمرّ، ما دام قادرا على ترك أثرٍ في نفس إنسان واحد فقط.
الهموم كثيرة، ومن الواضح أن الكتابة تُعالج همومها بالمزيد منها!