فصل جديد من معركة الحرّيات في الكويت

24 سبتمبر 2023

طلاب في جامعة الكويت يحتجّون ضد قرار فصل الجنسين في التعليم فيها (18/9/2023/فرانس برس)

+ الخط -

أثار تطبيق قرار منع الاختلاط بين الجنسين، في جامعة الكويت، أو بالأحرى والأدقّ منع التعليم المشترك، سخط كويتيين عديدين واستنكارهم، خصوصاً في أوساط هيئة التدريس والطلبة، الذين دعوا إلى التظاهر ضده، وطالبوا السلطات الكويتية بإلغائه، والحفاظ على استقلالية الجامعة من التدخّل السياسي، وصون حقوق الطلبة في ضمان مستقبلهم الدراسي، فيما اعتبرت أوساطٌ مدنيةٌ وسياسيةٌ كويتية القرار جزءاً من معركة، تشنها منذ سنوات قوى ظلامية على الحريات العامة في الكويت، ليصبح قضية رأي عام في بلدٍ كان يعدّ من البلدان العربية التي حملت مشعل التنوير، وتصدّرتها خلال سنوات عديدة في حرية الرأي والفكر والإعلام، بحسب تقارير دولية، لكنها باتت غارقة منذ مدّة في التشدّد الإسلامي الذي تريد قواه السياسية إخضاع الكويت لأهوائها وآرائها وتوجهاتها، معتبرة ما تعمل على فرضه على المجتمع الكويتي تطبيقاً للشريعة والأحكام الإسلامية.

جاء القرار مع بدء العام الدراسي الجديد، وبعد سلسلة من قرارات منع أثارت استنكاراً واسعاً، جديدها أخيراً كان منع عرض فيلم "باربي" في صالات العرض في الكويت، لكن هذا المنع دفع كويتيين كثيرين إلى مشاهدته خارج بلدهم احتجاجاً، منهم وزير الإعلام السابق، سعد بن طفلة، الذي شاهده في بلد آخر، ثم كتب: "لو لم يمنع الفيلم في الكويت لما ذهبتُ لمشاهدته"، لكنه لم يلقِ باللائمة على وزارة الإعلام، التي يتّهمها كويتيون كثر بالخوف من "دواعش مجلس الأمة"، ويقصدون بهم برلمانيين يسمّيهم ناقدون "نواب قندهار"، الذين لا همّ لهم سوى منع الأفلام، وكذلك منع التمثيل والمسرح والرواية والموسيقى والرقص والغناء والنحت والرسم والفنون.

جاء قرار منع التعليم المختلط في الكويت مع بدء العام الدراسي الجديد، وبعد قرارات منع أثارت استنكاراً واسعاً، جديدها أخيراً كان منع عرض فيلم "باربي" في صالات العرض

على المستويين، الإجرائي والسياسي، صدر قرار منع التعليم المشترك بعد اجتماع رئيس "لجنة تعزيز القيم" في مجلس الأمة، مع وزير التربية والتعليم العالي، وسبقه اقتراح قدّمه عدة نواب، يقضي بتعديل المادّة الأولى من القانون 24 لسنة 1996 بشأن تنظيم التعليم العالي في جامعة الكويت والهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب، والتعليم في المدارس الخاصة، ونصّ على "منع الاختلاط، بتحديد أماكن خاصذة للطالبات تكون مفصولة فصلاً تاماً ومعزولة، وتشمل تلك المباني قاعات الدرس والمختبرات والمكتبات والأنشطة والخدمات التربوية والإدارية وجميع المرافق".

الواقع أن قرار منع التعليم المشترك في جامعة الكويت وملحقاتها يعود في الأصل إلى القانون رقم 24 لعام 1996، ولم يكن له ضرورة في ذلك الوقت، إذ صدر مستهدِفاً منع الاختلاط، عبر الفصل بين الطلبة والطالبات، بوضع أماكن خاصة للطالبات في المباني وقاعات الدرس والمختبرات والمكتبات والأنشطة والخدمات وجميع المرافق، الأمر الذي نتجت منه تفرقة غير مبرّرة بين الجنسين في ممارسة الحق في التعليم، وفقدان حقّهم في اختيار المواد والشعب الدراسية التي تتناسب مع حالتهم التعليمية ومؤهلاتهم العلمية. غير أن المحكمة الدستورية أبطلت مفعول القانون، في حكمها التاريخي عام 2015، حيث اعتبرت أنّ الفصل داخل المبنى والشعب يكفي لتحقيق مبدأ الفصل بين الجنسين، ويضمن حُسن سير العملية التعليمية، والتعليم الأكاديمي، في البناء المشترك. وبناءً عليه، "يكفي تخصيص أماكن في القاعة الواحدة للذكور والإناث"، ما يعني فعلياً السماح للجنسين بالاشتراك في المباني والقاعات نفسها، ثم وافق مجلس الأمة الكويتي في عام 2019 على قانون الجامعات الحكومية الجديد، الذي لم يتناول قضية التعليم المشترك.

وعلى الرغم من أن المحكمة الدستورية الكويتية اعتبرت وجود الطلاب والطالبات في القاعة نفسها لا يعدّ اختلاطاً ما دام وجود كل طرفٍ منفصلاً عن الآخر، إلا أن نواب التيار الإسلامي المتشدّد في مجلس الأمة لم يقتنعوا بذلك، وأرادوا منه إيجاد قضية سياسية، من أجل الوصول إلى تحقيق مسعاهم، من دون النظر في ما يسبّبه من حدوث أزمة شعب الدراسة، وتحميل خزانة الدولة تكلفة إضافية، لأن المهم بالنسبة إليهم هو مقتضيات التشدّد، عبر منع التعليم المشترك بشكل تام في كل مباني الجامعة وملحقاتها. في المقابل، لا ترغب إدارة جامعة الكويت في فتح مواجهة معهم، لذلك استجابت للضغوط السياسية، رغم أن ذلك سبّب ارتباكاً لها وللطلبة وللمؤسّسة التعليمية.

ثمن صعود الجماعات المتشدّدة والسلفية الابتعاد عن اهتمامات المواطن الكويتي ومشكلاته، لصالح تقييد الحرّيات العامة

يرى رافضو القرار أنه يُعَدّ انتهاكاً لأخلاقيات العمل الديمقراطي وممارساته، فضلاً عن أنه يقيد الحريات العامة. والأخطر أنه يشكّك في أخلاقيات عامة الناس وسلوكهم، وخصوصاً الطلاب والطالبات. وبالتالي، لا تتعلق القضية بقرار تنظيمي يخصّ جامعة الكويت فقط، بل تمسّ معركة الحريات التي تشنها القوى المتشدّدة، في محاولتها العودة بالكويت إلى الوراء. وهي لن تكتفي بذلك، بل ستواصل فرض آرائها ومواقفها على الكويتيين، عبر بعضٍ من نواب البرلمان، يمثلون تيارات سياسية متشدّدة، لاستدراج الكويت إلى تطبيق أجندتهم، من طريق استخدامهم شعارات دينية وبروباغاندا إعلامية، تدغدغ مشاعر الفئات الشعبية بادّعاءات الانتصار للدين والتقاليد والحفاظ على القيم وحماية المجتمع.

المشكلة أن الحكومة الكويتية كبّلت نفسها بقيود عديدة منذ سنوات عديدة، بغية الحفاظ على توازناتها وحساباتها السياسية، خصوصاً حيال صعود تيارات الإسلام السياسي، السنّية والشيعية، المتشدّدة، التي عمدت إلى التهجّم على نظام الدولة، والتحالف مع العشائر والقبائل، لفرض أجنداتها على الدولة والمجتمع. وقد لاقت تجاوباً من دوائر في الحكم، ضمن صراع الأجنحة ومراكز القوى، ووظّفت ذلك من أجل فرض حظر جميع أنواع المهرجانات وحفلات الرقص، وتجريم الوشم على الجسد، ووقف جميع المسابقات، وإلغاء حفلات موسيقية، والفصل بين الجنسين في الأماكن العامة، وكلها إجراءات تهدف إلى تحويل الكويت إلى بؤرة ظلامية، الأمر الذي يشي بأن ثمن صعود الجماعات المتشدّدة والسلفية كان الابتعاد عن اهتمامات المواطن الكويتي ومشكلاته، لصالح تقييد الحرّيات العامة، إذ كلما صعد ممثلو التشدّد الديني والاجتماعي زادت القيود على الكويتيين بذريعة الأعراف والعادات والتقاليد، وزادت معها السرقات ونهب المال العام وفضائح الرشى التي يتورّط بها كثيرون من المتسترين تحت عباءة التديّن الإسلامي.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".