لماذا تفشل التجارب الديمقراطية في أفريقيا الفرنكوفونية؟

23 سبتمبر 2020
+ الخط -

لماذا فشلت كل التجارب الديمقراطية في أفريقيا الغربية الفرنكوفونية؟ ولما تعثرت وتتعثر كل الانتقالات الديمقراطية في الدول الأفريقية التي كانت مستعمرة سابقا من فرنسا؟ ولماذا تستمر الفوضى وعدم الاستقرار والتخلف ويسود الفساد والاستبداد في الدول الأفريقية التي لم تنجح في الخروج من دائرة النفوذ الفرنسي الإمبريالي الجديد؟ أسئلة كثيرة لا تنتهي بشأن هذه العلاقة الملتبسة بين الإرث الاستعماري الفرنسي وتخلف عديد من مستعمراته السابقة في القارّة السمراء، على جميع المستويات، مقارنة مع التحولات اللافتة للانتباه التي تعرفها بعض الديمقراطيات الناشئة والاقتصاديات الناهضة في دول أفريقية أخرى كانت مستعمرةً من دول غربية أخرى. 

ليس الأمر وليد اليوم، بالنظر إلى ما يحدث في مالي أو ساحل العاج، وإنما يعود إلى عقد الستينيات، حين اتبعت بعض المستعمرات الفرنسية السابقة خياراتٍ أيديولوجيةً سياسيةً لم تكن قادرةً على تفعيلها لتحقيق التقدّم السياسي والتنمية الاجتماعية والتطور الاقتصادي. سواء تعلق الأمر بالماركسية اللينينية أو الإشتراكية أو التقدّمية القومية أو الشوفينية الوطنية، أو نظام الحزب الواحد.. وكلها تجارب باءت بالفشل، سواء بسبب الانقلابات العسكرية المتوالية، أو تحول أغلبها إلى ديكتاتوريات عسكرية شعبوية أو أنظمة شوفينية استبدادية، وأدّى انهيارها، نهاية ثمانينيات القرن الماضي مع سقوط جدار برلين، إلى انتشار الفوضى الاجتماعية والحروب الأهلية المدمرة التي طبعت عقد التسعينيات في أغلب هذه الدول.

تجارب باءت بالفشل، سواء بسبب الانقلابات العسكرية المتوالية، أو تحول أغلبها إلى ديكتاتوريات عسكرية شعبوية أو أنظمة شوفينية استبدادية

نهاية حقبة التسعينيات ستعرف ولادة أشكال جديدة من الحكم داخل هذه الدول، طابعها العام نوع من الليبرالية المشوّهة والديمقراطية الهجينة. وهي نماذج فرضتها برامج التقويم الهيكلي التي اشترطتها مؤسسات النقد الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، تحت عناوين الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتنمية الاجتماعية والحكامة الجيدة. وهكذا ستظهر تجارب ديمقراطية هجينة، تتبنى التعدّدية وتنظم انتخاباتٍ تسمح بتداولٍ شكلي على السلطة بطرق سلمية في بعض الدول. لكن مظاهر الديمقراطية في أغلب هذه الدول ستقتصر على الانتخابات، مع فتح هامشٍ متحكّم فيه من حرية التعبير، خصوصا خلال العشرية الأولى من القرن الحالي. وسرعان ما سوف تتحوّل الانتخابات في هذه الدول إلى أحد أسباب الاضطرابات والفوضى التي ستؤدي إلى تدهور التنمية الاجتماعية والاقتصادية المطلوبة لبناء دول قوية. وحتى الدول التي نجحت في استمرار التداول على السلطة بطرق سلمية، لم ينعكس هذا النجاح على التنمية الاجتماعية، بسبب تفشّي الفساد وسيادة المحسوبية والزبونية، وهكذا تم استبدال مفاهيم الديمقراطية واللامركزية والتنمية، في أغلب هذه الدول، بمفاهيم الوحدة الوطنية والفساد والمحسوبية. وتحوّلت هذه الديمقراطيات الهجينة إلى وسيلة لتقوية الأيديولوجية النيوليبرالية التي تتزعمها فرنسا وأذنابها في المنطقة، وبمثابة الوصفة التي تقدّمها المؤسسات المالية الدولية لهذه الدول، للجواب على تحدّيات التنمية التي تواجهها شعوبها. 

الاستعمار غير المعلن أدى إلى ظهور ديكتاتوريات ديمقراطية، على رأسها ديكتاتوريون حكموا بلدانهم فترات تتجاوز في بعض الحالات 20 سنة

وبدلا من أن تساهم الديمقراطية التي تبنّتها كثير من هذه الدول منهجا للحكم، في تنمية بلدانها وتطويرها، أدّت إلى تفشّي الفساد وزيادة نسبة الفقر وانتشار الفوضى الاجتماعية والعنف السياسي، نتيجة الآثار المدمرة للاستعمار الفرنسي الذي ما زالت مظاهره الاقتصادية والثقافية قائمة، فقد استبدلت فرنسا احتلالها مستعمراتها السابقة بعلاقات استغلالية، بذريعة إدخال إصلاحات نيوليبرالية ساهمت في إفقار أفريقيا، وسمحت باستمرار استغلال مقدّراتها من الدولة نفسها التي كانت تحتلها، فالديمقراطيات الشكلية، والتي لا علاقة لها بالحكم الرشيد، التي ترعاها وتدعمها فرنسا في كثير من مستعمراتها السابقة، هي وسيلتها الجديدة للتحكّم في هذه الدول لضمان مصالحها، ولا سيما من خلال ضمان حرية الوصول إلى الموارد الطبيعية الخام، والتحكّم في التجارة الأفريقية.

الأكيد أن الدول ذات السيادة الحقيقية، حتى لو لم تكن ديمقراطية، تنجح في تنمية مجتمعاتها وتطويرها

لا توجد علاقة سببية بين الديمقراطية والحكم الرشيد، أو بين الديمقراطية والتنمية، لكن الأكيد أن الدول ذات السيادة الحقيقية، حتى لو لم تكن ديمقراطية، تنجح في تنمية مجتمعاتها وتطويرها. وليس هذا مديحا مجانيا لدول الاستبداد الشرقي، فالديمقراطية قد توجد في سياق حكم فاسد، وفي المقابل، يمكن أن يوجد حكم رشيد في غياب الديمقراطية. والعلاقة ما بين الديمقراطية والحكم الرشيد تبقى ضعيفة ونسبية، وهذا يعني أن الأطروحة التي تقدّم الديمقراطية على أنها الشرط الضروري للمساعدة على التنمية خاطئة تمامًا، الهدف من ورائها تكريس التبعية للمستعمر السابق، بفرض ديمقراطية شكلية لا تمثل سيادة الشعب، وليس غريبا أن هذا النوع من الديمقراطيات الهجينة هي التي تنتشر في الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية.

فقد المواطنون في الدول التي استعمرتها فرنسا الثقة في أنظمتهم ودولهم، وتراجعت نسب مشاركتهم في الانتخابات

لقد عرفت فرنسا كيف تكيف "الانفتاح الديمقراطي" الذي شهدته مستعمراتها الأفريقية في حقبة التسعينيات، لإعادة تشكيل المشهد السياسي في المنطقة الناطقة باللغة الفرنسية، وتنصيب أنظمة ديمقراطية هجينة، تحفظ لها استمرار مصالحها القديمة في القارة السمراء. وأدّى هذا الوضع الجديد من الاستعمار غير المعلن إلى ظهور ديكتاتوريات ديمقراطية، يوجد على رأسها ديكتاتوريون حكموا بلدانهم فترات تتجاوز في بعض الحالات 20 سنة، أو تداولوا السلطة مع أبنائهم وإخوانهم، وحول هؤلاء نمت نخبٌ سياسيةٌ فاسدةٌ تهيمن على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولا تخفي ولاءها لفرنسا. وفي مقابل هذا الانتكاس الديمقراطي، فقد المواطنون في هذه الدول الثقة في أنظمتهم ودولهم، وتراجعت نسب مشاركتهم في الانتخابات، حتى في الدول التي كانت تقدّم نماذج ناضجة للتحوّل الديمقراطي.

فبينما تظل الانتخابات، من حيث المبدأ، خطوةً مهمة في كل انتقال ديمقراطي حقيقي لبناء دولة القانون والمساواة الاجتماعية، إلا أن الاستعمار النيولبيرالي الجديد، خصوصا الفرنسي، أفرغها من مضمونها ومن أهدافها النبيلة، لإرساء أنظمةٍ هجينةٍ ضعيفة، يكون قادرا على التحكم فيها وإملاء شروطه عليها، وهو ما نشهده اليوم في أكثر من تجربة أفريقية من مستعمرات فرنسا السابقة.

D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).