فرنسا ولبنان مبادرات لا تنتهي
ليست جديدة تلك المبادرة التي حملها معه الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى بيروت في زيارته الأولى بعد كارثة المرفأ في 4 أغسطس/ آب 2020، من أجل إنقاذ لبنان من أزماته، وإعادة ثقة هذا البلد مع المجتمع الدولي ومؤسساته. لم يترك ماكرون وسيلة بالترهيب عبر التهديد بفرض العقوبات، ولا بالترغيب من خلال التبشير بدعم لبنان عبر "مؤتمر سيدر"، إلا واستخدمها لحثّ المسؤولين في لبنان على الإسراع في تشكيل حكومتهم والمبادرة بالإصلاحات، وذلك بعد أن قدّم الرئيس حسّان دياب استقالة حكومته، وترك البلاد أمام فوضى الارتطام بعد فشل التشكيل الذي دام 13 شهراً، فيما كانت طوابير الذل تزداد، والعزلة الدولية تشتد، والمقاطعة العربية تأخذ شكل العزلة.
استفاد الفرنسي من التغيير الذي حصل مع الرؤية الأميركية في إدارة ملف منطقة الشرق الأوسط، ولا سيما بعد فوز الرئيس جو بايدن في الانتخابات الرئاسية. عمد الفرنسي إلى اعتماد سياسة "ملء الفراغ" الذي خلّفه إعادة التموضع للجيش الأميركي، والانسحاب العسكري من المنطقة، هذا ما ترجمه المتابعون بأنه ضوء أخضر أميركي، سمح لماكرون بدخول الشرق الأوسط انطلاقاً من نقطة الارتكاز، العراق. برزت الفلسفة الماكرونية ذات الخلفية الاقتصادية في إدارة هذا الملف، ومحاكاة اللاعبين الدوليين والإقليميين في المنقطة، فأخذت العبرة لإنجاح مبادرتها من مقولة الرئيس اللبناني الراحل كميل شمعون، "خلّي عينك على العراق.. عراق قوي، لبنان مستقر"، من هنا كانت البداية. من العراق، حيث وقّعت شركة توتال إينيرجيز مع وزارة النفط العراقية، عبر وزيرها إحسان عبد الجبار إسماعيل، عقداً مع مديرها التنفيذي، باتريك بويانيه، للاستثمار في مجال الغاز والنفط واستغلال الطاقة الشمسية، بقيمة تبلغ 27 مليار دولار. وقال إسماعيل إن هذا "أكبر استثمار لشركة غربية في العراق، والتحدّي الآن هو تنفيذ المشاريع"، موضحاً أن "ثلث أموال الاستثمار سيُصرَف خلال السبع سنوات المقبلة". توقيع شركة توتال دليل واضح على أن دورها في لبنان سيعاد إلى التنقيب في الرقعتين 4 و9، بعد توقف قسري لم تعرف أسبابه إلى الآن، رغم التكهنات الكثيرة التي أطلقت.
هل ستنجح الدبلوماسية الفرنسية التي تستعمل سياسة العصا والجزرة مع الجانب اللبناني في ضمان نجاح المبادرة الفرنسية في بيروت؟
هل ستنجح الدبلوماسية الفرنسية التي تستعمل سياسة العصا والجزرة مع الجانب اللبناني في ضمان نجاح المبادرة الفرنسية في بيروت، ما سيضمن ولاية جديدة لماكرون في قصر الإليزيه؟ أم أن الحلول السلمية قد لا تنفع، فلا يبقى أمامها سوى الخيار الأصعب، وهو العسكري، على الرغم من استبعاده نهائياً؟ بالعودة إلى تاريخ العلاقة الفرنسية اللبنانية، يتضح لنا أنّها علاقة مصالح ترسمها فرنسا في بلدٍ يتمتع بحدود بحرية على البحر المتوسط، واليوم بثروة نفطية وغازية في رقعه، ما يثير شهوة الفرنسي في الوجود فيه لتأمين مصالحه الاستراتيجية. ففي زمن القائمقاميتين، المسيحية والدرزية، كانت الفتنة بين المسيحيين والمسلمين على أشدّها، وكانت متنقلة في المناطق كافة، وكانت ذروة الصدامات والقتال ربيع عام 1860، عندما تحوّلت إلى مذابح دامية وتوسعت لتطاول جنوب جبل لبنان حتى أوسطه، فسقط آلاف من الأبرياء من الطرفين. أمام هول المذابح، تدخلت فرنسا زعماً لحماية المسيحيين، لكنّ الهدف كان السعي إلى إنشاء دويلة مستقلة، تحت حكم الموارنة تحديداً، تخضع سياسياً واقتصادياً لمشيئة الحكومة الفرنسية، وتكون رأس جسر لسياستها في المشرق العربي، فيما كان تدخل العثمانيين من أجل إلغاء أي استقلال ذاتي، لوضع الجبل تحت حكمهم المباشر.
قد تصطدم الحكومة التي أطلق عليها بعضهم اسم الحكومة الفرنكوفونية، لما لفرنسا من دور في اختيار وزراء مقرّبين سياسياً منها، بمشاريع إيران في لبنان
صحيحٌ أن فرنسا آنذاك تدخلت بدبلوماسيتها المعهودة مع العثمانيين، الأمر الذي أنتج يومها ميثاقاً عرف بـ"بروتوكول 1861"، إلا أنه سرعان ما سقط وانهار، وانتهى بتقسيم نفوذ السلطنة وانتداب فرنسي على لبنان، بعد حربٍ عالميةٍ أولى دامت أربع سنوات من القتال. ففي مقاربة لتاريخ هذا البلد بين الأمس واليوم، نجد أن الطموح الفرنسي لم يتغير، حتى ولو أتى تحت اسم "صداقة لبنان"، فها هي دبلوماسيتها اليوم تدفعها إلى التواصل مع الجمهورية الإسلامية في إيران، من خلال اتصال جرى بين الرئيسين ماكرون وإبراهيم رئيسي، لتسهيل عملية التشكيل، بعد 13 شهراً من استقالة حكومة دياب. لهذا، يعتبر المتابعون أن بروتوكول 2021، الذي تُرجم عبر تشكيل حكومة نجيب ميقاتي وما رافقها من تسويات، قد يسقط أمام تضارب المصالح بين الفرنسي والإيراني، حيث بدأ الأخير عبر حليفه في لبنان، حزب الله، باستجرار النفط ببواخر من إيران عبر سورية إلى لبنان، الأمر الذي إن استمرّ سيسبب مشكلتي التوزيع والتصدير بعد الاستخراج، أمام شركة توتال في السوقين، المحلي والخارجي. لهذا، قد تصطدم الحكومة التي أطلق عليها بعضهم اسم الحكومة الفرنكوفونية، لما لفرنسا من دور في اختيار وزراء مقرّبين سياسياً منها، بمشاريع إيران في لبنان، وأبرز تلك المشاريع، قرار الحرب مع الكيان الإسرائيلي، ما يعرقل أيضاً من عملية التنقيب لشركتها. تحدّيات جدية ومقلقة مع زيادة الترشيحات لحرب إيرانية إسرائيلية سيكون لبنان ساحتها الأساسية، ما يعوق مصالح فرنسا الحيوية.
أخيراً، أمام تضارب المصالح في بلد معقد التركيب والمشاريع الداخلية والخارجية، وفي ظل تصاعد وتيرة التهديدات الإسرائيلية بضرب لبنان، قد تشهد انطلاقة الحكومة انتكاسة تعرقل نجاح المبادرة الفرنسية، فهل سيكون للحسم العسكري عندها دور في ذلك؟