فرنسا - سريلانكا

12 يوليو 2022
+ الخط -

يتعجّب أولادي الصغار عندما يشاهدونني أتابع قنوات الأخبار في الصباح الباكر، أو في المساء قبل النوم، يسألونني هل هذا ممتع مثل أفلام الكارتون؟ أجيبهم بأنه أمر ليس ممتعا بالمرّة، فالعالم مليء بالصراعات والحروب في كل مكان، أخبار مؤلمة نطالعها كل يوم، وتحالفات معقدة تتغير كل فترة.
يسألني ابني الصغير أحيانا عن أخبار الانتخابات في دول العالم التي أهتم بمطالعتها، هل الشخص الفائز طيب أم شرير؟ وهل أنصاره طيبون أم أشرار؟ أحاول بصعوبة تبسيط فكرة أن العالم ليس طيبين وأشرارا فقط مثل أفلام الكارتون، وأن بين الخير والشر درجات كثيرة، وأن الخير من منظور بعض الأشخاص قد يكون هو الشر لآخرين، وكذلك الشر عند بعض الناس قد يكون الخير عند آخرين.
كنت أتابع الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، الانتخابات التشريعية الفرنسية، أرى دائما أن متابعة الانتخابات مهمة لنا، رغم أنه لا توجد في أوطاننا انتخابات حقيقية، ربما ذلك يشبه الجائع الذي يحلم بسوق الخبز كما يقال في الأمثال. كانت المفاجأة المتوقعة فوز اليمين الفرنسي بنسبة كبيرة، قد تكون تلك هي المرّة الأولى التي يصل فيها اليمين المتطرّف إلى تلك النسبة في البرلمان منذ تأسيس حزب التجمع الوطني (المتطرف)، أما تحالف اليسار ففاز أيضا بنسبة كبيرة تمثل نسبة معطّلة، وتقف أمام انفراد الرئيس ماكرون بالسلطتين التنفيذية والتشريعية. ويرى كثيرون أن ماكرون وقع في ورطة كبيرة، فبتلك النسب سيصعب عليه تمرير أي قانون في الجمعية الوطنية، وكل تشريع سيتعرّض لكثير من الوقت والمناقشات، ويحتاج تحالفات جديدة، سيكون عليه السعي نحو إيجاد توافق على كل قانونٍ على حدة، لاستكمال سياساته ومشروعة الإصلاحي.

يبدو أن ماكرون سيكون مقيدا بنسبة كبيرة طول فترته الرئاسية الحالية، وإنْ سيظل لديه النفوذ في السياسة الخارجية

النتائج كذلك مقلقة للمهاجرين، فقد أصبحت لليمين المتطرّف قدم في البرلمان، وقدرة أكبر على الدفع بقوانين معادية للمهاجرين، خصوصا أن نسبة اليمين تعني احتمال رضوخ ماكرون لتسويات ومواءمات لتمرير بعض القوانين، ربما تكون في غير مصلحة المهاجرين. وقد كانت زعيمة "التجمّع"، ماريان لوبان، تتوعد، قبيل الانتخابات، بتمرير حزمة قوانين جديدة تزيد التضييق على المهاجرين، حتى الحاصلين منهم على الجنسية الفرنسية، مثل تشديد شروط منح الجنسية، وكذلك شروط السماح باللجوء السياسي، ووضع أولوية للفرنسيين في سوق العمل والضمانات الاجتماعية.
حاول ماكرون، في الأسابيع الماضية، تشكيل تحالف جديد للبرلمان أو تشكيل حكومة ائتلافية، طبقا لنتائج الانتخابات في ذلك البلد الذي لديه نظام سياسي مختلط، ولكنه فشل بشكل كبير، بعد رفض القوى الوطنية قبول ذلك التحالف. وآخر وضع مشابه لهذا كان منذ حوالي 20 عاما، عندما كان جاك شيراك الرئيس وكان رئيس الوزراء ليونيل جوسبان الاشتراكي. وقد أقرّ ماكرون بتلك الخسارة، أو التصدعات كما أطلق عليها، وقال إنه سيسعى إلى مراعاة ذلك التغيير الذي حدث، وتلك الإرادة التي أدت لذلك. وقوبل خطابه بهجوم كبير من اليمين واليسار، ورفض زعماء الأحزاب والتحالفات المنافسة إجراء أي تحالف برلماني معه.
يرى جان لوك ميلونشون، التروتسكي السابق، مرشّح أقصى اليسار وزعيم تحالف يضم اليساريين والخضر والشيوعيين، أنه لا مجال للتحالف مع ماكرون، فالتوجهات الاقتصادية مختلفة تماما، فميلونشون يرغب في رفع الحد الأدنى للأجور وخفض سن التقاعد وتعديل الضريبة على الثروة، بالإضافة إلى تعديلات جوهرية يرغب فيها ليكون النظام السياسي أكثر ميلا إلى النظام البرلماني وليس الرئاسي.

الشعوب تنتفض فجأة محطّمة جميع القيود، عندما تنسدّ أمامها كل السبل

ويبدو أن ماكرون سيكون مقيدا بنسبة كبيرة طول فترته الرئاسية الحالية، وإنْ سيظل لديه النفوذ في السياسة الخارجية، وهو ما استطاع تحقيقه في فترته الأولى، وأيضا ستكون لرئيس الجمهورية الكلمة العليا في قضايا داخلية كثيرة، ولكن الملاحظة المعتادة أنه، رغم تلك الصراعات والتغييرات، إلا أن ذلك لا يؤثر على بقاء الدولة أو استمراريتها، بل يعدّ تداول السلطة وتعدد الأحزاب من قوة الدولة.

2
طالعتنا، أخيرا، أخبار من أقصى الشرق عن الثورة الشعبية في سريلانكا، الدولة النامية التي تسيطر على حكمها عائلة راجاباكسا منذ أكثر من 20 عاما، فرئيس الجمهورية الحالي الذي أعلن أنه سيتنحّى خلال أيام، غوتابايا راجاباكسا، ورئيس الوزراء الذي أعلن استقالته منذ بدء الاحتجاجات أخوه الأكبر ماهيندا راجاباكسا، وكان رئيس الجمهورية في الفترة السابقة قبل أن يسلم المنصب لأخيه الأصغر.
شاهدت في التلفاز مشاهد مواطنين بسطاء يسبحون في حمامات السباحة داخل القصر الرئاسي بعد اقتحامه، فسرت في جسدي القشعريرة، عندما شاهدت الجموع الرهيبة وهي تثور مجدّدا ضد الفساد والفشل، تذكّرت ثوراتنا العربية في 2011 عندما خرج الملايين أملا في حياة أفضل للجميع. وكما تعطيني متابعة الانتخابات في البلدان الديمقراطية آمالا كبيرة وأفكارا عن إدارة الصراعات بشكل سلمي، تذكّرني دوما أخبار الثورات بأن الشعوب تنتفض فجأة محطّمة جميع القيود، عندما تنسدّ أمامها كل السبل، فبالرغم من القبضة الأمنية التي تحكم بها عائلة راجاباسكا، إلا أنها لم تستطيع فعل شيء أمام الجماهير الغاضبة.

أصبح الفساد في سريلانكا يزكم الأنوف، مع سوء الإدارة وإنفاق مليارات الدولارات في مشروعاتٍ ليست ضرورية

وعلى الرغم من أن ماهيندا كان يُنظر إليه بطلا قوميا وسط الأغلبية السنهالية في سريلانكا بعد انتصاراته على المتمرّدين التاميل، إلا أن ذلك لم يمنع الجماهير من الخروج عليه، بعد أن أصبح الفساد يزكم الأنوف، وبعد سوء الإدارة وإنفاق مليارات الدولارات في مشروعاتٍ ليست ضرورية، كما قال مراقبون كثيرون. ففي الشهورة الأخيرة، عجزت سريلانكا عن سداد ديونها، وارتفع معدل التضخّم إلى نسب غير مسبوقة، وارتفع سعر الغذاء الأساسي، وتوقف بيع الوقود، واختفت معظم السلع الرئيسية. والساخر في الموضوع أن تحليلات عديدة تذكر أن السبب الرئيسي لما حدث إصرار الحكومة في سريلانكا على إنفاق معظم أموال القروض الخارجية، وكذلك أموال دافعي الضرائب على مشروعات بنية تحتية غير ضرورية، أو مشروعات سياحية فخمة، أو بناء نصب تذكاري ضخم.

3
يسألني أبنائي: هل تتوقّع أن تحدُث ثورة في فرنسا، كما حدث في سريلانكا؟ أجبت ضاحكا: لو كانت في سريلانكا ديمقراطية تسمح بالاختلاف وتغيير الحاكم بشكل سلمي أو محاسبته عند إخفاقه لما حدث في سريلانكا ما حدث. .. يسألونني: هل من الممكن أن يحدُث في مصر ما يشبه سريلانكا؟ أجبتهم إن السيناريوهات والأوضاع مختلفة، رغم تشابه بعض التفاصيل والمسببات. ولم يتدهور الحال لدينا مثلما هناك، كما أنني لا أتمنّى حدوث ذلك التدهور، ولم أعد أرى هبّة أو فورة شعبية هي الحل الصحيح حاليا، فقد تدمّر كل شيء، وتلتهم كل شيء، خصوصا مع عدم وجود بديل سياسي أو ثقافة وممارسة سياسية، وفي غيبة سياسيين ناضجين بشكل عام.

DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017