فرنسا ... الشرح الطبقي الذي لا يشرح
قليلة هي الجوانب التي يحيط بها التفسير الطبقي لما يحصل في فرنسا هذه الأيام من تفجّر العنف بمستويات قياسية منذ قتل شرطيّ فتىً من أصول مهاجرة، هرب بسيارته من دورية أمنية. والعنف هنا غير موجّه ضد من يمثل السلطة بوصفها سلاح البرجوازية بحسب المعجم الطبقي، أي رجال الأمن والشرطة، إنما يحرق ويحطّم ويسرق كل ما يقع في طريقه بعدمية موصوفة: المواصلات العامة، الإدارات الحكومية، المصارف والمدارس والمكتبات العامة والجامعات ومنشآت البلديات والأملاك الخاصة من سيارات ومتاجر نالت نصيبها من النهب.
هواة تقديس النصّ الماركسي ومنطقه بمناسبة ومن دونها، جدير تذكيرُهم بمجموعة من البديهيات، أولها أن العمّال في فرنسا صوّتوا بنسبة 35% لمرشّحة اليمين المتطرّف مارين لوبان في انتخابات الرئاسة العام الماضي، و31% ممن صوّتوا لها يصنَّفون في خانة الأكثر فقراً. نالت اليمينية المتطرّفة من هاتين الفئتين (العمّال والأكثر فقراً) أكثر مما ناله ممثل اليسار الراديكالي جان لوك ميلانشون. ثانية البديهيات أنه يصعُب تشكّل الوعي الطبقي عند من تقل أعمارهم عن 17 عاماً، وهم الغالبية من الـ3354 شخصاً الذين تم توقيفهم حتى يوم الاثنين الماضي، وعدد كبير من هؤلاء من جذور مهاجرة تراوح أعمارهم بين 12 و13 عاماً. ثالث البديهيات سؤال: لو كان العامل الاقتصادي ــ الاجتماعي هو الحاسم في تحريك هذه الرغبة العنفية الهائلة التي طاولت 220 مدينة وبلدة وقرية فرنسية، فلماذا لا تُصيب جائحة العنف تلك بلداناً مثل بريطانيا، وهو البلد الأكثر تفاوتاً طبقياً في أوروبا، ويعيش فيه عدد مهاجرين أكبر بكثير ممن يعيشون في فرنسا؟ لماذا فرنسا، وهي أحد أكثر بلدان القارّة حفاظاً على مكتسبات دولة الرفاه الاجتماعي، رغم كل التراجع الحاصل بفعل الخصخصة والاجتياح النيوليبرالي الشامل؟
العامل الطبقي موجود بلا شك في لائحة محرّكات الحدث الفرنسي، لكنه يحلّ في مرتبة ثالثة من بعد ما هو أهم: الشعور بالعنصرية، والعامل الهوياتي ــ الثقافي المتمثل بكره الحارقين والناهبين والمحطِّمين كل ما يمتّ بصلة إلى البلد الذين وُلد معظمهم فيه، ويتيح، بدرجاتٍ متفاوتة، بفضل نظامه الديمقراطي وحرّياته ومؤسّساته الراسخة والليبرالية وقضائه المستقل، احتمالات معتبرة من الترقي الاجتماعي والطبقي. وبقدر ما أنّ التقليل من شأن العامل العنصري ممارسةً وشعوراً وجوّاً عاماً هو تزوير في شرح ما يحصل من عنف، بقدر ما لا يفعل استبعاد العنصر الثقافي المتجسّد في جيل من أحفاد مهاجرين يكره البلد الذي يعيش فيه وحضارته، إلا تغذية الجهل بفرنسا والانجرار خلف روايات "استغرابية" (استشراق بمعناه السلبي معكوساً) ينسجها عربٌ مهجوسين ببغض الغرب و"قيمه" (التنوير والحداثة والليبرالية والديمقراطية والعلمانية).
أزمة فرنسا عويصة مع الاندماج الذي تريده شاملاً لكلّ من يحمل هويتها. في ذلك تختلف عن جارتها بريطانيا التي تُحكى فيها 600 لغة ولهجة، وتبني سياستها مع المهاجرين على قاعدة تعايش المجموعات (communautarisme)، حيث الحقوق شرطُها احترام القانون ودفع الضريبة ونظافة السجل الأمني حصراً. أما في فرنسا، فالاندماج في القيم الفرنسية شرطٌ رابع. في فرنسا، مطلوبٌ من الفرنسي أن تنحصر هويته عاطفياً بفرنسا، بينما في بريطانيا تتسع العاطفة لعددٍ لامتناه من الهويات. العنصرية في فرنسا مستفحلة في الشرطة وفي قطاعات أخرى. من شواهدها أن الحملة المالية المخصّصة لدعم عائلة الشرطي الذي قتل الفتى نائل المرزوقي تجاوزت المليون يورو في غضون ستة أيام فقط. من دون تعديل قانون عام 2017 (الذي يحدّد شروط إطلاق عناصر الشرطة النار) يصعُب ضبط عنف رجال الأمن، والعنصرية تكون أحياناً موجّهاً لذلك العنف. لكن، ماذا عن هذا العنف المقابل الذي انفجر؟ عن هذه الرغبة بالانتقام والتشويه والسرقة والتخريب والقتل ربما؟ ممّن الانتقام بالتحديد؟ هل يدرك هؤلاء الفتية أنهم بسلوكهم هذا خير حليفٍ للعنصريين وخير مغذٍّ لعنصريّتهم؟