فرص التأثير على مسار الحوار الوطني في مصر
لا تستقيم الأخبار الواردة من القاهرة مع ما تدّعيه السلطة الحاكمة أنها ستدخل في حالة حوار سياسي وطني شامل مع جميع القوى السياسية، فقد حكم على المنسق السابق للحركة المدنية الديمقراطية، المهندس يحيى حسين عبد الهادي، يوم الإثنين 23 مايو/ أيار الجاري، بالسجن أربع سنوات، بتهم "نشر أخبار كاذبة عمداً داخل البلاد وخارجها". والغريب أن لجنة العفو الرئاسي كانت قد أعلنت قبل هذا الحكم أن عبد الهادي من الشخصيات السياسية التي سيُفرج عنها. من ناحية أخرى، تستمر ممارسات الاختفاء القسري، فقد تعرّض المصوّر الصحافي محمد فوزي مسعد للاختفاء، بعد القبض عليه من منزله الثلاثاء الماضي. وكان المصوّر الصحافي قد تعرّض للاعتقال من قبل 14 شهراً، بتهم تتعلق "بنشر أخبار كاذبة والانتماء لجمعية إرهابية وإساءة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي"، حتى إطلاق سراحه في فبراير/ شباط 2020. وفي الوقت نفسه، حظرت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، التي تدير غالبية القنوات والصحف والمواقع الإخبارية، والتابعة لأجهزة سيادية في الدولة، تناول أي أخبار أو لقاءات تتعلق بالحركة المدنية الديمقراطية وقادتها، ووضعهم على القائمة السوداء لمنع ظهورهم في الإعلام، وذلك بعد الانتقادات التي وجهها بعض أعضاء الحركة للطريقة الإقصائية والفوضوية التي تتبعها السلطة الحاكمة وأجهزتها الأمنية في التحضير للحوار الوطني.
لقد اتجهت تقديرات الرئيس عبد الفتاح السيسي والدوائر المحيطة به، والأجهزة الأمنية، إلى أن الحوار الوطني والسيولة السياسية والإعلامية المرتبطة به ستتوقف حدودها عند بعض الإفراجات العشوائية والانتقائية للمعتقلين وسجناء الرأي في مقابل مشاركة واسعة من ممثلين عن الأحزاب والحركات السياسية والشخصيات العامة في مؤتمر كرنفالي حاشد، لإخراج مشهد سياسي يساعد السلطة الحاكمة، في الوقت الحالي، على تجديد شرعيتها الداخلية في مواجهة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتمهيد الطريق للرئاسة الجديدة للسيسي عام 2024. كذلك يساعد هذا المشهد النظام الحاكم في توصيل رسالة دولية أن مصر تشهد انفتاحاً وحراكاً سياسياً، خصوصاً مع استعداد الحكومة المصرية لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP27) في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل في شرم الشيخ، وهو حدث دولي مهم، سيجعل سجل حقوق الإنسان في مصر محط أنظار الإعلام العالمي، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية.
لا يبدو أن النظام الحاكم مستعدٌّ لأن يشكل هذا الحوار الوطني مساراً لتغيير حقيقي في المشهد السياسي الداخلي
لدى قطاع معتبر من المعارضة المصرية الرسمية داخل مصر، وفي وسط شخصيات عامة وإعلامية، عرفت من قبل بدعمها المطلق نظام السيسي، انطباعٌ بأن هذا الحوار يمثل فرصة لتحقيق انفتاح سياسي تدريجي في المجال العام، بحيث يمثل متنفساً سياسياً واجتماعياً للمجتمع المصري في ظل أزمة اجتماعية واقتصادية غير مسبوقة. ويبدو أن مواقف بعض من هذه الشخصيات الإعلامية تعبّر أيضاً عن رغبة قوى إقليمية، لطالما كانت حليفة لنظام عبد الفتاح السيسي خلال السنوات السابقة، لكنها ترى الآن أن تغيّراً ما يجب أن يحدُث في الإدارة السياسية والاقتصادية لمصر. ومن ناحية أخرى، كانت الضغوط الخارجية حاضرة في التفاعلات بشأن سياسات حقوق الإنسان للنظام الحاكم في مصر في مناسباتٍ عدة خلال السنوات السابقة، لكن نتائجها اتسمت بالمحدودية في ظل قدرة النظام على تنويع مصادر الدعم السياسي والمالي والعسكري الإقليمي والدولي، والالتفاف الشعبي والنخبوي الداخلي، حول السردية التي اعتمد عليها النظام الحاكم منذ انقلاب يوليو 2013 باعتباره منقذاً للبلاد من مصير السقوط في العنف والحرب الأهلية، وتوظيف خطاب مكافحة الإرهاب للتغطية على السياسات السلطوية.
في هذا السياق، لم تكن هذه الضغوط الدولية تمثل تهديداً حقيقياً لشرعية النظام الحاكم على المستوى الداخلي، وهي أحد العوامل الحاسمة التي تدفع أنظمة الحكم السلطوية، في بعض الأحيان، لتقديم تنازلات نوعية في مجال الحقوق والحريات العامة. كما أن هذه الضغوط الخارجية بقيت، في معظمها، عند مستويات الخطاب الدبلوماسي، من دون أن تشكل تهديداً مباشراً للمصالح الاستراتيجية للنخبة الحاكمة. وتخبرنا تجارب الحكم السلطوي المشابهة أن الضغوط الخارجية أو الداخلية لإحداث تغييرات في سياسات الحقوق والحريات للحكومات السلطوية تظل ذات آثار رمزية، ما لم تكن متزامنة مع قابلية النظام الحاكم للتأثر بهذه الضغوط نتيجة أزمات داخلية أو انقساماتٍ في نخبة الحكم، بما ترتبه من تهديداتٍ لشرعية هذا النظام، سواء داخلياً أو خارجياً. ففي غياب هذه الشروط، يكون عادة الاختيار الأسهل بالنسبة لنظام الحكم السلطوي هو القمع بشكل واسع، وهو ما جرى في مصر، خصوصاً في السنوات الأولى لحكم عبد الفتاح السيسي، والتي اتسمت بتمسّك السلطات المصرية بسياسات المقاومة وخطابات الإنكار لأي مواجهة دولية لسجل مصر في مجال حقوق الإنسان. بالطبع، كانت هناك مناسبات أبدى فيها النظام الحاكم بعض التنازلات التكتيكية المحدودة في مجال الإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين والحقوقيين البارزين، أو إحداث إصلاحاتٍ قانونيةٍ شكليةٍ كما حدث في مجال تنظيم العمل الأهلي أو إصدار الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وهي خطواتٌ كانت، في مجملها، استجابة لضغوط دولية مباشرة، ووساطات من حلفاء دوليين، خصوصاً الولايات المتحدة أو فرنسا.
يعاني اليوم نظام السيسي من قابلية للتأثر بالضغوط الخارجية والداخلية، بفعل أزمة اقتصادية واجتماعية، تمثل قدراً من التهديد لشرعيته
يعاني اليوم نظام عبد الفتاح السيسي من قابلية للتأثر بالضغوط الخارجية والداخلية، بفعل أزمة اقتصادية واجتماعية، تمثل قدراً من التهديد لشرعيته، والتي لم يعد يكفي أن تستند إلى سردية إنقاذ البلاد من الفوضى، أو مكافحة الإرهاب، وهو الأمر الذي دفع الرئيس إلى إطلاق مبادرة الحوار الوطني. على المستوى الداخلي، وفي ظل المساحة السياسية المحدودة، هناك مطالب سياسية وإعلامية متكرّرة على مدار الأسبوعين السابقين بأن يكون الحوار الوطني فرصة لضمان الحد الأدنى من الحقوق والحريات العامة، وتوسيع مساحة المشاركة السياسية التي جرى تأميمها بشكل منهجي على مدار ثماني سنوات. لكن لا يبدو أن النظام الحاكم مستعدٌّ لأن يشكل هذا الحوار الوطني مساراً لتغيير حقيقي في المشهد السياسي الداخلي. ويبقى أمام المعارضة المصرية ضرورة التوحد حول الشروط المطلوبة لجدية الحوار الوطني، والتمسك بها ورفض المشاركة في شرعنة حوار وطني هزلي مسرحي يخدم أجندة سلطة قمعية أكثر مما يعود بالنفع على الحياة السياسية والحقوقية المصرية. من ناحية أخرى، الفرصة سانحة أمام منظمات حقوق الإنسان المصرية، والتي لها ثقل كبير على المستوى الدولي، لدفع الشركاء الدوليين للحكومة المصرية إلى الضغط من أجل توفير الحد الأدنى من ضمانات الحقوق والحريات المطلوب توافرها لجدّية هذا الحوار الوطني، وذلك بالتزامن مع المفاوضات الجارية على حزمة مساعدات اقتصادية جديدة تنتظرها الحكومة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وفي سياق استعداد الحكومة المصرية لاستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي نهاية هذا العام.