فخّ الأسد
ليس لبشار الأسد من اسمه نصيب، بالتأكيد، غير أن ذلك لا يمنع من أنه يحظى بـ"نصيب الأسد"، عندما يتعلق الأمر بالإجماع الدولي على إبقائه رئيساً. يتساوى في ذلك خصومه وحلفاؤه على السواء، امتداداً من إيران وروسيا، وصولاً إلى أميركا وإسرائيل، وما بينهم كالإمارات والبحرين وتركيا، ومن يمسكون بالعصا من المنتصف كالأردن. ولكن كيف حظي الأسد بكل هذا الدلال؟ لا أحد يعلم، لكن من الواضح أنه رئيسٌ قادر على جمع الأضداد حوله، وقبل ذلك على أرضه التي أصبحت ساحةً لتصفية الحسابات، ومختبرًا لتجربة الأسلحة وكشف النوايا، ولا يضيره أن يحكم دمشق وحدها ما دام يعني ذلك اعترافًا عالميًّا برئاسته. والأهم أنه يعرف جيدًا أنه مجرّد فخٍّ ينصبُه الجميع ضدّ الجميع.
على ذلك، أصدّق إسرائيل حين تزعم أنها أفشلت نصب مئات منصّات الصواريخ الإيرانية على الأراضي السورية، بفضل قصفها الجوي المستمرّ، مقابل تكتّم إيراني، وضعف في رواية الناطق العسكري السوري الذي يكتفي بسرد عباراتٍ مكرورةٍ مقتضبة، عن "تعامل الدفاعات الجوية السورية مع عدوان جويّ صهيوني". أما الحقيقة المؤكّدة فهي أن إسرائيل لو شاءت إسقاط الأسد لفعلت، خصوصًا في ظل هشاشة الدولة السورية حاليًّا، لكنها تريد استدراج الخصم الإيراني قريبًا منها لتلقنه درسًا.. وهذا ما لا يتاح لها من دون "الطّعم" الممثل بسيادة "الرئيس" ونظامه.
من المفهوم أن الأرض السورية غدت مرتعًا للقاصي والداني، غير أن ما يستعصي على الفهم مدى الاختراق الجاسوسي الحاصل داخل سورية، من إسرائيل تحديدًا، إلى الحدّ الذي يسمح لها بمعرفة سائر التحرّكات الإيرانية هناك، ومنها منصّات الصواريخ التي يتم إجهاضها أولًا بأول، وأحيانًا لدى وصولها إلى مطار دمشق، كما حدث أخيرًا، عدا دوّامة الاغتيالات المستمرّة لعسكريين إيرانيين، وقادة من حزب الله.
ولو أضفنا إلى "الموساد"، والمخابرات الروسية، على اعتبار أن ثمّة وجودًا عسكريًّا روسيًّا في سورية، تغدو التوقعات عن "التعاون" والمستفيدين أشدّ ترجيحًا، فما الذي يمنع روسيا، حتى قبل حربها مع أوكرانيا، من الاحتجاج على الضربات الإسرائيلية ضد سورية، إلا إذا كان ثمّة صفقة بين الطرفين تسمح بهذه الضربات ضد أهداف إيرانية بعينها، مقابل أن تسمح إسرائيل لروسيا بحماية "الطّعم" من الانهيار.
والحال أن حماية بشار ونظامه تكاد تكون القاسم المشترك بين جميع الأطراف الخارجية المتصارعة في الداخل السوري، فإيران أدخلت سلاحها وعسكرها ودعمها الماديّ اللامحدود لهذه الغاية، وكذا فعل حزب الله، وروسيا، وإسرائيل، وهو عين ما أرادته الولايات المتحدة أيضًا، وإنْ جاء ذلك تحت موارباتٍ شتّى.
وفي المقابل، يبدو أن "الطّعم" أصبح ذا طموحاتٍ أكبر من الصنّارة المعلق بها، فصار يتعيّن على نظام بشار الأسد الذي استفاد من الجميع في مرحلة دقيقة أوشك فيها أن يكون "خارج الخدمة" كمطاراته المدمّرة، واقتصاده المقوّض، وبلده المفتّت، أن يحسم خياراته الجديدة في مرحلة مغايرة، لم يعد فيها نظامه مهدّدًا وجوديًّا، بل أصبح يتعيّن أن يحدّد الطرف الذي ينبغي أن ينحاز إليه.
ولأنه نظام زاحف ذو قدرة خارقة على التكيّف والتقنّع، فقد بات يدرك أن المعادلة العالمية الجديدة تتطلّب منه غربلة حلفائه "الكثر"، وانتقاء من يكفل له منهم تقديمه إلى العالم بوجهٍ خالٍ من الحقد، ويدين معقّمتين من الدماء، وهذا ما لا تستطيع إيران المعزولة دوليًّا، والمحاصرة اقتصاديًّا، والمهدّدة إسرائيليًّا وأميركيًّا، أن تحققه له، ما دفعه إلى فتح خطّ استخباري ساخن مع إسرائيل، يسمح لها برصد الأهداف الإيرانية بكل سهولة ويسر، وضربها في مهدها.
ذلك ما يبدو أقرب إقناعًا للعقل في مسألة العدوانات المتكرّرة على سورية، لكن ما يثير الحيرة كيف ستكون ردّة فعل إيران، لا ضدّ إسرائيل، بل حيال نظامٍ نشلته من الموت في لحظاته الأخيرة، وتكبّدت من أجل بقائه خسائر تفيض عن الوصف، هي وحليفها حزب الله والمليشيات الإيرانية، ثم قوبلت بجحود يصل حدّ التآمر مع إسرائيل ضدّ وجودها على أرض "الحليف المدلّل"، الذي تحوّل إلى حليف جاحد؟