فتاة الفستان
عندما أدت فاتن حمامة، في واحد من أجمل أفلامها، "القلب له أحكام"، دور طالبة يتيمة وفقيرة في كلية الطب، وتعيش في حيّ شعبي، كانت تذهب إلى الكلية حيث تلتقي الطالبات الثريات بفستان ضيق وقصير، يُظهر دقّة عودها. وكانت موضة تلك الفساتين مستوحاة من ملابس النساء اللواتي عملن خلال الحرب العالمية الأولى التي تتيح لهن حرية الحركة. وكان من المقبول أن ترتدي النساء فساتين تصل إلى خط الركبة وبلا أكمام. ثم ظهرت فاتن حمامة وهي تدّعي الثراء في سهرة تجمع طلاب دفعتها بفستانٍ مشابه، لكن بقماش وتصميم فاخرَين. وظهرت في أفلام أخرى بفساتين من تلك التي راجت موضتها في العالم سنة 1903، وكانت النساء وقتها يرتدين فساتين تحتوي على قطعة داخلية، تجعل الفستان يبدو منفوشاً من الجزء السفلي، وتعرف هذه القطعة بـ"الجونلة". وقد صنعت الفساتين وقتها من الحرير والقطن والدانتيل أو الشيفون، وكانت على نحو يسمح بالظهور بخصرٍ مشدود. وفي نهاية تجسيد فاتن حمامة دور الطالبة الثرية، انتصر الحب الذي بدأ بفستانٍ مستعار.
انتهت موضة الفساتين التي كانت تخرج بها النساء، لتحلّ محلها أزياء مختلفة، وقد حرص المصمم العالمي، كريستيان ديور، على أن يبقي على نمط ارتداء الفستان عقداً كاملاً، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية من خلال تصميماته المختلفة، لتدخل بعد ذلك أزياء مختلفة للنساء، من بينها السراويل التي نادى مشايخ بتحريمها، لأنّها تعتبر تشبّهاً بالرجال، فيما لم يرفعوا أصواتهم حين كانت موضة الفساتين التي تصل إلى ما فوق الركبة والقصيرة أو العديمة الأكمام والمفتوحة الصدر التي لم تكن النساء الصغيرات في السنّ يتحرّجن من ارتدائها خلال النهار. وإن دلّ ذلك على شيء، فهو يدلّ على ارتباط الهجوم الظاهري على الحرية الشخصية للمرأة، في بداية نشأة التيارات الدينية المتشدّدة في العالم العربي.
تناقلت الأخيار، قبل أيام قليلة، حادثة تعرّض فتاة جامعية للتنمّر، بسبب ارتدائها فستاناً قصيراً، وذهابها إلى الجامعة للتقدم للامتحان. وفيما كانت هذه الفتاة تتقدّم لامتحانها، كانت العيون تتابعها، حتى سألتها المراقبة: "يبدو أنّك قد نسيتِ ارتداء البنطلون ليخفي ساقيك!".
ويبدو أنّ كلّ شيء على ما يرام، كلّ الأمور طيبة، ولا شيء يستحق التعليق أو الاعتراض، والحياة تبدو وردية، والبشر نبتت لهم أجنحة ملائكة فأصبحوا يصطدمون ببعضهم عند المسير، وعاشت البشرية في المدينة الفاضلة، لولا هذه الفتاة الخرقاء التي خدشت عيونهم البريئة، وهي ترتدي فستاناً قصيراً يكشف ساقيها.
يمكن الحديث عن الأمر بأنّه حريةٌ شخصيةٌ، ما دامت الجامعة نفسها لم تحدّد زياً رسمياً، وقد سمحت للطالبات اللواتي يرتدين، طوال الوقت، البنطلونات الضيقة، وتدخل في أجسادهن بصعوبة، والممزقة عند أماكن حسّاسة في أجسادهن لما فوق الركبة وأسفلها، بحيث تبدو للجاهل بتلك الموضة الغريبة أنّها ممزّقة، لكنّها ليست كذلك، مع أغطية الرأس التي ترتفع إلى أعلى الراس بعدة سنتيمترات، بحيث يبدو شكل رأس الفتاة مثل سنام الجمل، كما يصفها المتشدّدون دينياً بالفعل. وتتغاضى إدارات الجامعات عن السلوكيات المنفرة للفتيات بالتشبه بالرجال، فعلياً وليس شكلياً، وتسمح لإثارة مثل هذه الزوبعة عن لباس الطالبة، حبيبة طارق.
لسنا بصدد فتوى دينية تبرّئ الفتاة أو تدينها. وحين نتكلم عن حرية شخصية، فنحن نتكلم أيضاً عن ارتداء النساء الخمار الكاسي، وعن المجتمع الذي يتغاضى عن التصرّفات والسلوكيات الاجتماعية للجنسين التي تخدش الحياء وتنافي الذوق. وإذا كان علينا أن ننتقد فتاة الفستان، يجب أن ننتقد المجتمع الذي اعتاد أن ينتقد ولا يغير، ويحكم على ديانة الناس وأخلاقهم من مظهرهم، ولا يتردّد في جرح مشاعرهم بتنمّره وسخريته المباشرة، ولا يدعو إلى الموعظة الحسنة بالرفق واللين والستر، ممسكاً بقشور الدين، ويكيل بمكيالين، وغاضّاً الطرْف عن مهلكات الجيل الحقيقية، وآفاتٍ مزرية، ومنها التعصب وتقييد الحرّيات.