"فاغنر" وزعيمها ... محاولة للفهم
الحيرة مبرّرة لدى متابعة أخبار رئيس أكبر شركة قتل وتخريب في العالم، (فاغنر)، يفغيني بريغوجين، أشهر رجل روسي حالياً بعد فلاديمير بوتين. الروسي الوحيد الذي يحقّ له أن يكيل الفظائع اللفظية لكل حكّام موسكو ما عدا بوتين، هو بريغوجين. كل ما دون صديقه ــ الرئيس في المتناول. وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس هيئة الأركان الروسية فاليري غيراسيموف هدفان مفضّلان لشتائمه. يحصل ذلك كله في بلد لا حرية فيه ولا ديمقراطية ولا صحافة مستقلة ولا قضاء نزيه، بلد يُدار بمنطق العصابة، الكليبتوقراطية الممزوجة بالأوليغارشية وبملامح سوفييتية كثيرة وبإرث وفير من زمن روسيا القيصرية. يقف الرجل بوتيرة شبه أسبوعية بين جثث مقاتليه في باخموت وقبلها في سوليدار الأوكرانيتين ليخاطب شويغو وغيراسيموف باللعنات والتحقير، لأنهما برأيه يحرمان مرتزقة شركته من الذخيرة والسلاح لكي لا يُحسب "انتصار" باخموت، في حال تحقّق، لمصلحة "فاغنر"، لا الجيش الروسي أو مليشيات الشيشاني رمضان قديروف مثلاً. لا يكتفي بذلك، فيهدّد بسحب مقاتليه من أهمّ جبهة للحرب الروسية على أوكرانيا اليوم، مدينة باخموت التي لا يزال مرتزقة فاغنر والجيش الروسي وباقي مليشياته عاجزين عن حسمها لمصلحتهم منذ ثمانية أشهر.
أيّ حصانةٍ يملكها الرجل؟ ما سرّ هذا السقف المرتفع من الحرّية الذي يتحرّك بريغوجين تحته؟ هل صار أقوى من الدولة الروسية أو أنه هو الدولة، بالتالي لا ضير من أي شيءٍ يقوله الرجل طالما أنه يرأس أهم مؤسّسة روسية شبه حكومية تعمل في خدمة الأهداف الاستراتيجية للكرملين؟ لكن هل الرجل صار يطمح إلى أن ينافس صديقَه بوتين، أو أن واقعيته تجعله يدرك أن ذلك لو خطر على باله سيكلفه حياته اليوم قبل الغد، وأن أقصى ما يمكن أن يحققه هو أن يكون الرجل الأول على يمين الرئيس بدل شويغو وغيراسيموف وغيرهما؟
أسئلة كان منطقياً أن ينشغل المحللون والصحافيون ومراكز الأبحاث والاستخبارات بمحاولة الإجابة عنها بما أن شركة مرتزقة فاغنر، ورئيسها بريغوجين، صارا الرمز الأكثر وضوحاً للنظام الدولي الجديد الذي تقترحه روسيا على العالم. والأجوبة المحتملة تلك تتراوح من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. هناك من يعتبر أن بريغوجين حليفٌ قويُّ لبوتين، ولكنه أكثر تطرّفاً منه في "الدفاع عن روسيا" بحسب الباحثة السياسية في معهد واشنطن آنا بورشفسكايا. يصل الأمر بالدبلوماسي السابق وأستاذ العلاقات الدولية الأوكراني، فلاديمير شوماكوف، إلى اعتبار أن هجوم المسيّرات على الكرملين قبل أيام نفّذته "فاغنر"، لكي يوجّه بريغوجين من خلاله رسالة إلى بوتين بأن "جيش روسيا عاجز عن حمايته". أما الكاتب الأميركي إيلان بيرمان فيرى في تصريحات بريغوجين "صراعاً مهماً على السلطة داخل روسيا، لأن بريغوجين يقدّم نفسه بشكلٍ متزايدٍ كبديل محافظ لبوتين". في المقابل، لا يعني ما يقوله ويفعله بريغوجين "أي نوع من الصراع مع الجيش الروسي، إذ إن فاغنر بطريقة أو بأخرى هي جزء من الجيش الروسي"، وفق الباحث السياسي الروسي المقيم في موسكو، أندريه أنتيكوف، وجميعها آراء رصدها قبل أيام تقرير موسّع لموقع قناة الحرة المموّلة من الإدارة الأميركية.
في بلد كروسيا، حيث الحرية "مؤامرة غربية" تُحارَب مثلما يجدُر أن تُحارَب كل مؤامرة، يصعب الوصول إلى معلومات موثوق بها في شأنٍ حسّاس كقصّة "تمرّد" يفغيني بريغوجين أو تجرّئه على حكّام موسكو. ما نعرفه أنه حتى لو انعدمت كل أسباب رفض نموذج النظام الدولي الذي تريد روسيا إرساءه، يكفي استخفاف بوتين ورفاقه بذكاء البشر لكي يعارض أي امرئٍ يعيش في هذه المعمورة ما تقترحه علينا موسكو. تُنشئ أكبر شركة مرتزقة في العالم، تموّلها وتوجهها وتختار لها أهدافها وساحات عملها. تكلفها بالقتال وبإسقاط أنظمة وبدعم أخرى وبإسناد مليشيات وعصابات وبتصفية خصوم الكرملين في الخارج. بعد هذا كله، يخرُج عليك فلاديمير بوتين أو أي بوتيني من حكّام موسكو ليقول لك: لا علم لدينا بما تتحدّثون عنه.