فازت قطر رغم الظلمات الثلاث
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.
في اللحظة التي كان يغرد فيها دعاة حقوق الإنسان وأدعياؤها عن حقوق العمال في قطر ومن خلال أجهزة الآيفون وعلى منصة تويتر، كان عمال شركة آبل في الصين يقمعون لتظاهرهم بسبب أكل أجورهم وظروفهم الصحية بسبب الجائحة، وإيلون ماسك يشرد عمال "تويتر" بقرارات مزاجية بعد أن استحوذ على الشركة. ليس هذا الدليل الوحيد على الازدواجية في التعامل مع قطر، ذكرنا أيضا بتلك الازدواجية البغيضة هزيمة الأرجنتين المذلة أمام السعودية، ففي العام 1978 استضافت كأس العالم وفازت به وهي ترزح تحت حكم الانقلابيين العسكر الذين حصلوا على جائزة غير مستحقة، وقتها كان المعارضون السياسيون الذين تكتظ بهم الزنازين يسمعون هتافات المشجعين دون أن يتمكنوا من حضور المباريات. تاريخ الازدواجية يمتد قبل ذلك، عندما شكلت جبهة التحرير الوطني الجزائرية فريقًا في المنفى عام 1958 في سياق معركتها ضد الاحتلال الفرنسي. تنافس الفريق مع منتخبات وطنية أخرى، وتحت ضغط من فرنسا عاقب "فيفا" الفرق التي لعبت مباريات مع فريق جبهة التحرير الوطني.
فازت قطر عندما هزمت تلك المعايير المزدوجة، ونجحت في تنظم واحدة من أفضل البطولات، وبددت ظلمة السماء أنوار الاحتفالات. خرجت البطولة، بصعوبة وإصرار وجد ومثابرة من رحم ظلمات ثلاث، الحملة المنهجية الظالمة، والحصار الذي فرض عليها في وقت حرج وانتهى بصلح العلا، وظلمة جائحة كوفيد 19 التي عطلت النشاط البشري. الظلمة الأولى كانت الأشد، وتنوع رعاتها بين فئتين؛ الأولى دول وهيئات متربصة بقطر وتدفع الملايين للإضرار بها، والفئة الثانية هيئات حقوقية وصحافيون أحرار يريدون اغتنام كأس العالم لتمرير أجندتهم الحقوقية. لكن هذه الفئة تعرضت للاختراق والاستغلال من الفئة الأولى. وغذّى الفئتين استعلاء ثقافي غربي يستصغر قطر والعرب والمسلمين ويستكثر عليهم البطولة.
فازت قطر وكسرت الظلمات الثلاث وأنارت أضواء احتفالات ملعب البيت السماء. جسد ذلك الملعب الخصوصية الثقافية، وهو يرمز للخيمة العربية التي انطلقت منها حضارة مركزية أنارت ظلمات العالم، وجاءت تلاوة الطفل غانم المفتاح للقرآن الكريم رسالة تسمع من به صمم، ذكرنا غانم بمقولة اللاعب زيدان "بكيت عندما لم أجد ثمن حذاء رياضي لكني في اليوم ذاته شاهدت رجلا بلا قدمين"، فالطفل الذي ولد بلا قدمين تمكن بمعونة أسرته ودولته من أن يكون قصة نجاح ملهمة للعالم الذي تسمر على الشاشات ليتابع أقدام اللاعبين.
في النهاية المشجعون والفيفا غير معنيين بالصراع السياسي والثقافي، هي رياضة عابرة للحواجز السياسية والثقافية. وجاءت كلمة أمير قطر ردا واضحا على تلك الحملات "سوف يجتمع الناس على اختلاف أجناسهم وجنسياتهم وعقائدهم وتوجهاتهم هنا في قطر، وحول الشاشات في جميع القارات للمشاركة في لحظات الإثارة ذاتها. ما أجمل أن يضع الناس ما يفرقهم جانبا لكي يحتفوا بتنوعهم وما يجمعهم في الوقت ذاته". وبالفعل لم ينشغل الناس بغير المستطيل الأخضر والكرة التي يتقاذفها اللاعبون.
تواصلت الحملة البغيضة مع نجاح البطولة، ولك أن تتخيل حجم البغضاء في تغطية "الغارديان" لمباراة قطر والإكوادور، والتي اعتبرت أن فوز الإكوادور دليل على أنه البطولة لا تشترى، ولو فازت قطر لقالت اشتريت البطولة! طبعا جاء فوز السعودية على الأرجنتين صادما لهذا المنطق. في مقابل الهياج صدعت أصوات عاقلة لعل أبرزها "الإيكونومست" عندما ترافعت في مقالة عن حق قطر في الاستضافة وقارنتها باستضافة روسيا التي كانت تحتل القرم ودورة الألعاب الأولمبية في الصين، واعتبرت ذلك "ينم عن تحيز أعمى. يبدو الكثير من النقاد الساخطين وكأنهم ببساطة لا يحبون المسلمين أو الأغنياء"، موضحة "هذا بعيد كل البعد عن روسيا فلاديمير بوتين، حيث تم إرسالك إلى السجن لوصفك الحرب في أوكرانيا بأنها حرب، ناهيك عن التنديد بها. وهو عالم مختلف عن الصين، حيث لا يسمح بزقزقة معارضة سياسية. طرد المجلس العسكري الأرجنتيني الذي استضاف كأس العالم عام 1978 النقاد من طائرات الهليكوبتر".
وفي تحقيقها عن العمال النيباليين قدمت "نيويورك تايمز" معلومات دقيقة ترد أرقام "الغارديان" الكاذبة، ونقلت عن مسؤولي العمل في نيبال وصفهم للوظائف في قطر بأنها "قيمة للغاية لدرجة أن نشطاء العمال المهاجرين في نيبال يعترفون بأنهم يخشون أحيانًا الضغط بشدة من أجل الإصلاحات. هناك، بعد كل شيء، الكثير من الفقراء في البلدان المجاورة يتنافسون على العمل وعلى المال الذي يجلبه إلى الوطن".
وفي الأرقام الرسمية بحسب التحقيق، لا يبدو ثمة فارق في وفيات العمال بين قطر وغيرها "توفي ما لا يقل عن 2100 عامل نيبالي في قطر منذ عام 2010، وهو العام الذي فازت فيه بحقوق استضافة كأس العالم، وفقًا لبيانات جمعتها وزارة العمل النيبالية. (ماتت أعداد كبيرة في أماكن أخرى أيضًا: أكثر من 3500 في ماليزيا، وحوالي 3000 في المملكة العربية السعودية، وما لا يقل عن 1000 في الإمارات العربية المتحدة".
وتقول "الإيكونومست" صراحة "ينظر العالم أيضًا إلى العمال المهاجرين في قطر من خلال عدسة مشوهة، لسبب واحد، الإمارة أكثر انفتاحًا على العمالة الأجنبية من أميركا أو أي دولة أوروبية".
وتخلص إلى أنه ما لم تتناوب على البطولة فنلندا والنرويج والسويد "فلا يمكن دائمًا الاحتفاظ بها في مكان خالٍ من اللوم. فكرة إحضار كأس العالم إلى العالم صحيحة فقط. الشرق الأوسط مليء بالمعجبين، لكنه لم يستضف الحدث من قبل. ولا يوجد أي بلد مسلم. إذا كان من المقرر إقامة بطولة كأس العالم في مثل هذا المكان، فإن قطر تعد اختيارًا جيدًا تمامًا".
يبقى القول إن على دعاة حقوق الإنسان وأدعيائها التمسك بالمعايير الصارمة التي طبقت على قطر في البطولات الرياضية المقبلة، ولا يتغاضون عنها كما الحال في تاريخ البطولة!
كاتب وصحفي، عمل مديرا عاما لقناة الجزيرة (2014-2018)، ومراسلا. وصانع أفلام، وكاتبا في صحف الرأي والغد والحياة.