فأر وقطّة وكلب
فيما كانت أمي تعيد وصف المشهد الذي تُقسم أنها رأته في شوارع مكّة إبان الستينيات من القرن العشرين، حيث عملت معلمة لعامين هناك، فهي، في كل مرّة تؤكّد أن السعودية "بلاد عزّ"، وتصرّ على هذا، وربما بوازع ديني بحت كانت تذهب إلى هذا الرأي، فهي تجمعنا حولها حيناً لتُخبرنا أنها كانت ترى الفأر والقطّة والكلب تمشي متجاورة في الشارع، دلالة على الشبع، فلا أحد في حاجة لكي يلتهم الآخر أو ينازعه على فريسة. وتجمع صويحباتها من النساء اللواتي يسرحن بخيالاتهن البسيطة، فتصف لهنّ المشهد حيناً آخر. أما أنا، فلم أكن أصدّق على الإطلاق، وخصوصاً أنني أدمنت في طفولتي أفلام الكرتون التي تدور حول مطارداتٍ لا تتوقف بين قطّ وفأر أطلق عليهما اسم "توم وجيري".
أما جدّتي، تلك المرأة البدينة الطيبة، التي لم تكن تستطيع أن تتحرّك من مكان جلوسها أمام الموقد، فهي لم تكن تتناول طعاماً دسّته تحت الخزانة الخشبية أياماً ثم نسيته، إلا بعد أن تتناول قطّتها بعضاً منه، مؤكّدة أن لدى القطّة القدرة على اكتشاف الطعام الفاسد والمسموم. كذلك فإن جدّتي لم تكن تجد غضاضةً في أن تأكل من موضع فم القطّة لأنها "طاهرة"، ولا تضر، بل على العكس تماماً، وتفعل ذلك بكل بساطة وطيبة، فيما تقف أنتَ بقامتك النحيلة أمامها، وتُبدي تقزّزاً لا يخفى أمام دعوتها لك لتناول الطعام من الصفحة التي ذهب لونها الحقيقي بفعل الزمن.
تترك قصص جدتك وأمك وحكاياتهما، وتصغي إلى رأي العلم، وما قام به العلماء حول العالم من تجارب. ومع أخبار الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية وبلداناً أخرى بقوة أقل، تقرأ أخباراً عن استخدام الحيوانات للبحث عن المفقودين والعالقين بين الأنقاض، ويبدو أن اعتماد البشر على الحيوانات واستخدامهم في مجال الاكتشاف والتجريب من أجل خدمة البشرية هو تاريخ قديم، مروراً بعلاقة جدّتي الراحلة بقطّتها. ففي بحثٍ نشرته منظمة بلجيكية، يطلق عليها اختصاراً اسم "APOPO" في عام 2022، تناول تجارب تدريب الفئران للمساعدة في إنقاذ ضحايا الزلازل، من خلال تزويد الفئران بكاميرات تُركَّب فوق ظهورها قبل إطلاقها في مناطق الكوارث الطبيعية، وحيث يساعدها صغر حجمها في الدخول إلى المناطق التي يصعُب على البشر الوصول إليها.
وقد استخدمت الكلاب في وقت سابق، وما زالت في تلك العمليات المضنية؛ ففي تركيا تحديداً، أظهرت كلبة تدعى "سيلا" بطولة مطلقة بنجاحها في إنقاذ حياة 12 شخصاً من تحت الأنقاض في ولاية ملاطية، فقد نجحت الكلبة المدرّبة التابعة لكتيبة الإنقاذ من الكوارث الطبيعية في تنفيذ مهمتها بكفاءة عالية، حتى أصيبت خلال عمليات البحث عن ناجين وعالقين بين الأنقاض بجروح في قدميها، بسبب قطع الزجاج والمعادن المتناثرة، وذلك لم يجعلها تتوقف عن المساعدة، فيما أرسلت روسيا عشرات الكلاب المدرّبة إلى سورية للبحث عن العالقين. وفي تاريخ سابق لزلزال تركيا أخيراً، تمكّن كلب يُدعى "ديزل" في إسبانيا من إنقاذ آلاف الضحايا مع مالكه، حيث شارك الاثنان في إنقاذ ضحايا زلزال نيوزيلندا في عام 2011.
وعلى صعيد آخر، استخدمت بعض الحركات والتصرّفات التي تقوم بها الكلاب وحيوانات أخرى، مثل الأسماك والطيور والزواحف والحشرات، في رصد الزلازل قبل وقوعها بسبب حواسّها المتطوّرة عن البشر، وإن لم يمنع ذلك وجود قلةٍ من البشر ممن يشعرون بالزلازل قبل ثوانٍ من حدوثها. وليس غريباً أن يصرُخ أحد الأشخاص في قرية نائية، المصنّف تحت مسمّى "عبيط القرية" بأن هناك حدثاً جللاً سيصيب المنطقة. ورغم أنه يصبح بعد ذلك شخصاً يتبارك به العامّة والبسطاء، ولكنه في الحقيقة يمتلك قدرةً على الشعور بموجةٍ خاصةٍ، تنتقل إليه من مصدر الزلزال، ولكن البشر مغرمون بكل غريب، ويلجأون إليه لحمايتهم من خطر غريزي قادم، مثلما كانت تفعل جدّتي تماماً مع قطّتها.