غلاء أكثر وربيع غير مؤجل
لا بأس من استعارةٍ تكيّف اسم رواية يوسف القعيد "يحدُث في مصر الآن" ليصير القول: "يحدُث في مصر وتونس والأردن والمغرب الآن"، (أمثلةٌ وحسب) ارتفاعٌ للأسعار، لك أن تصفه، من دون تحرّز، بأنّه جنوني أو صاروخي، ويمسّ سلعاً غذائية استراتيجية، وهذه تسميةٌ جائزة. ومن مفارقاتٍ معلومةٍ أنّ العادة درجت في الأردن أن يجري إعلانٌ حكوميٌّ في كلّ مرّة عن "تعديل الأسعار" (يعني رفعها)، غير أنّه لم يعد مأخوذاً بها منذ سنوات، فقد بات "التعديل" يُباغت المواطن (دعك من الزائر) بنفسه. وهذه تدويناتٌ وتغريداتٌ نشطة تخبرك، مثلاً، بارتفاع سعر غالون زيت القلي المستورد من مصر عشرة دنانير دفعة واحدة، بعد قرار السلطات المصرية وقف تصدير سلعٍ عديدةٍ في الأشهر الثلاثة المقبلة. وارتفاع الأسعار النشط منذ أسبوعين في غير بلد عربي، والمؤكّد أنّه مستمرٌّ، مقرونٌ بالذريعة الرائجة التي تردُّ الأسباب إلى الحرب الجارية في أوكرانيا، الدولة التي اكتشف العربي في غير موطنٍ له، أخيراً، أنّه لولاها لما لاقى خبزاً. وإذا كانت الأخبار قد جاءت من المغرب، قبيل هذه الحرب، عن تظاهراتٍ احتجاجيةٍ ساخطةٍ على أوضاع معيشيةٍ حادّة يتسبّب بها الغلاء المتسارع، فإنّ تقارير لزملاء صحافيين من تونس والأردن ومصر لا تستبعد خروج تظاهراتٍ ساخطةٍ على التآكل اليومي للرواتب والدخول والأجور، وتدهور القدرات الشرائية، مع الارتفاعات المروّعة المضطردة للأسعار، والتي مسّت الخبز في لبنان ومصر وغيرهما. أما الأخبار الوافدة من تونس، فتحدّثنا عن انشغال الرئيس قيس سعيّد بالمحتكرين واللصوص، على جريان عادته المُضجرة، بأنّ الحق في كلّ أزمة ومشكلة على الآخرين، وما على الحكومة سوى أن تعاقب من يستحقّون العقاب، أما اجتراح الحلول فموكولٌ لصندوق النقد الدولي عساه يمدّ البلد بقروض وقروض، وكفى الرئيس وحكومته البكماء الفعل والعمل.
أما ذلك السؤال عمّا إذا كان اتساع المسألة الاجتماعية، المعيشية الاقتصادية تعييناً، في جغرافياتٍ عربية غير قليلة، سيُشعل ثورات جياع غاضبة، حانقة، فالإجابة عنه ليست هينة، وفي البال أنّ المضمون السياسي، المحمول على أشواقٍ إلى الحريات والديمقراطية وإنهاء حكم الاستبداد والفساد، كان مركزياً في ثورات ربيع العام 2011، كانت العدالة الاجتماعية من مشتملاته. ومن هذا الباب، كانت ثلاثية العيش والكرامة والحرية شعاراً جامعاً. وفي الوسع أن يُقال، في معرض التحليل، لا التنبؤ أو التوقع، إنّ المسألة المعيشية، حيث غلاء الأسعار لم يعد يُطاق، وحيث ندرة فرص العمل أمام الشباب لم تعد تفصيلاً أكاديمياً، ستتقدّم بداهةً على المضامين السياسية المتصلة بالحريات، وإنْ لن تغيّبها. ومع شيوع الأحاسيس التي ما تني تتوطّن في العقول والحشايا عن بؤس السياسيين وركاكتهم وقلة مصداقيتهم، ساهمت خطاباتٌ شعبويةٌ، وسطحية ثقافة السوشيال ميديا، في ذيوع هذه القناعات، المحقّة في مواضع وغير المحقّة في أخرى، فإنّ حقوق المواطن العربي في العمل وفي راتبٍ يكفيه وفي تأمين رزق العيال ستكون العناوين الأولى والأهم في صدارة دوافع كلّ حراك. ولا يخرُج هذا المعطى البديهي عن منظورات أهل التفكير السياسي ودارسي الثورات وتجارب الأمم والانتقالات الديمقراطية، غير أنّ التشديد عليه في هذا التعليق موصولٌ بالظرف القاسي الراهن في بلادٍ عربيةٍ تعرف الاستقرار، أدامه الله فيها وحمى مواطنيها، مثل مصر والمغرب والأردن وتونس، حتى لا يأخذنا أيّ كلامٍ عن سورية واليمن (وليبيا؟) إلى متاهاتٍ والتباساتٍ لا يُجدي لتفكيكها توسّل نظرياتٍ وتجريدياتٍ متعاليةٍ على واقع بالغ التعقيد.
اجتهدت مطالعات مثقفين قديرين في بناء توقعاتٍ عن موجةٍ قادمةٍ لثورات ربيع عربي آخر، وإن انتهت ثورةٌ في السودان، أعقبت الربيع العربي الأول، إلى حكم عسكر متحالفين مع إسرائيل وقوى الثورات المضادّة في العالم العربي. وإن سكتت ثورة في العراق وقد وصلت نسبة من هم تحت خط الفقر إلى 40%. ولأنّ الأسباب التي دفعت المصريين والتونسيين وغيرهم إلى الخروج للميادين والشوارع ساخطين، في خواتيم العشرية الأولى ومطالع العشرية الثانية، تتجدّد، وإنْ بتنويعاتٍ أخرى، فإنّ المفاجآت واردةٌ بأن تعرف الميادين والشوارع نفسها موجات سخطٍ أكثر غضباً، فالسؤال صار عمّن في وُسعه أن يحتمل غلاءً أكثر وأكثر، وليس عمّن في وسعه أن يتكيّف أكثر وأكثر.