غزّة وعنصرية العالم الحديث

23 فبراير 2024
+ الخط -

الشعور بالقهر هو الطاغي من بين مشاعر كثيرة سيئة تفرض نفسها عليّ بسبب ما يجري من عدوان إسرائيلي وحشي على قطاع غزّة. ترتكب الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية هناك علناً، وأمام أنظار العالم الذي لا يفعل شيئاً، سوى تأييد إسرائيل في جرائمها بوصفها "دفاعاً عن النفس"، والطلب منها تخفيف عدد القتلى بين المدنّيين الفلسطينيين. وفي الاعتراض على معركة رفح التي تتحدّث عنها إسرائيل عدواناً قادماً لا محالة. يسأل الأميركيون والأوروبيون: ماذا ستفعلون باللاجئين؟ لتقوموا بالعملية العسكرية عليكم نقلهم مرّة أخرى إلى مكان آمن. أين يذهب سكان غزّة الذين لجأوا مرّة بعد أخرى إلى أماكن يفترض أنها آمنة، ولاحقتهم القذائف الإسرائيلية في كل مكان، ويُقادون من مكان إلى آخر كالخراف، من دون اعتبار لأي من حقوق الانسان التي يُفترض أنهم يتمتعون بها، والتي يتشدق بها العالم، لكنها لا تنطبق علينا. أيُّ نفاقٍ تمارسه هذه الدول لتغطي على الجريمة الإسرائيلية الممتدّة منذ أشهر والتي قتلت عشرات الآلاف من الفلسطينيين، وجعلت أوضاع الجميع في القطاع أوضاعاً كارثية، كل المؤسّسات الإنسانية تحذّر من عواقبها، خصوصاً على أكثر الفئات ضعفاً في قطاع غزّة، الأطفال والنساء والشيوخ؟ وأي نقل آمن للاجئين يتحدّث الأميركيون عنه في ظل القصف الإسرائيلي الذي لم يترك مكاناً في غزّة لم يستهدفه، وهو السجن المغلق على الفلسطينيين بسبب الحصار الإسرائيلي منذ سنوات طويلة؟

استمرّت الولايات المتحدة وحلفاؤها في معاقبة الناس، بدلاً من إجراءاتٍ تمسّ الأنظمة نفسها

تختصر السياسات الأميركية والأوروبية الداعمة لإسرائيل في حربها الوحشية على الفلسطينيين صورتنا عند صانعي هذه السياسات، والتي تدلّ على ما يمكن تسميتها "عنصرية ناعمة" تختفي وراء تصوير مزيّف لواقع قائم من أجل تبرير سياسات لا يمكن تبريرها من دون هذا التزييف للواقع الحقيقي. وهي سياساتٌ لطالما اتبعها الغرب بعد انهيار الدول الاشتراكية واستئثار الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب الباردة، وفرض منطقها وشروطها على كل العالم. والسياسات بوصفها مستندة إلى معامل لتزييف الحقائق، كانت ذروتها في اختراع الأكاذيب في العراق في العام 2003 من دونها ما كان للولايات المتحدة أن تجد مبرّرات لغزوها العراق واستكمال تدميره، وتبين أن أسلحة الدمار الشامل التي تحدث عنها وزير الخارجية الأميركي في حينها، كولن باول، أمام مجلس الأمن لتبرير الحرب، لا وجود لها، وعلاقة النظام العراقي بتنظيم القاعدة، لم يكن لها أي أساس أيضاً. ولكن المهم في ذلك أنه جرى احتلال العراق، وليس مهماً سواء كانت الوقائع مزيّفة أم لا، ولم يعد من الممكن التراجع عن احتلال العراق الذي أصبح واقعاً ورسم مستقبل المنطقة اللاحق. 
والسياسات الأكثر وحشية كانت حصار الدول التي اعتبرتها الولايات المتحدة "دولاً مارقة"، والتي اختارت أن تفرض الحصار عليها، سمتها في بعض الحالات "عقوبات ذكية"، وماذا كان مفعول هذه العقوبات؟ لم تدفع الأنظمة الحاكمة ثمن هذه العقوبات، ذكية أم غبية. والناس البسطاء هم الذين دفعوا ثمن هذه العقوبات، وأي باحث في العقوبات التي فرضت على العراق وليبيا وسورية وغيرها، يعرف أن أنظمة هذه البلدان استطاعت أن تصدّر هذه العقوبات إلى شعوبها. رغم ذلك استمرّت الولايات المتحدة وحلفاؤها في معاقبة الناس، بدلاً من إجراءاتٍ تمسّ الأنظمة نفسها. نستذكر هذه العقوبات، وقد ابتكرت إسرائيل نسختها في محاصرة قطاع غزّة من السياسات العقابية الأميركية، ولم تكن أفضل حالاً، لقد جرى عقاب الناس الأكثر ضعفاً في قطاع غزّة عبر الحصار، رغم أن الذريعة معاقبة حركة حماس.

سياسة لا ترى ضحايا العدوان من الفلسطينيين مساوين للضحايا الإسرائيليين في القيمة الإنسانية

لم تقف إسرائيل عند العقوبات والحصار والتحكّم بقطاع غزّة، بل خاضت الحرب بعد الأخرى مستهدفة بنيته المتهالكة أصلاً، وحوّلت القطاع إلى مكان غير صالح للعيش، رغم عيش أكثر من مليوني فلسطيني في مساحة 350 كيلومترا، وهي من أعلى المناطق كثافة سكانياً في العالم. ولكن هذا لم يمنع هذا العالم، تحديداً الولايات المتحدة وأغلب الدول الأوروبية، من أن ترى الحرب الاسرائيلية على هذا المكان البائس عادلة من جيش يملك أكثر العتاد تطوراً، يلاحق الناس العزل بالطائرات المقاتلة والدبابات في كل مكان بذريعة أن مقاتلي "حماس" يستعملونهم دروعاً بشرية! وتأتي الادارة الأميركية والدول الأوروبية لتتحدّث عن حقّ اسرائيل بـ"الدفاع عن نفسها" ضد من؟ ضد العزّل في قطاع غزّة.
لا يمكن الحديث عن حربٍ بين الجيش الإسرائيلي وحركة حماس، إلا لمن يريد تزييف الحقائق، ويجعل من حركة تملك سلاحاً فردياً بدائياً ندّاً لأقوى قوة عسكرية في المنطقة. ما يجري عدوان اسرائيلي مستمرٌّ منذ عقود، وما جرى في 7 أكتوبر، رغم قسوته على إسرائيل وفشلها الأمني، لا يقلب الحقائق ويجعل الضحية جلاداً والجلاد ضحية. هذا الخطاب الاسرائيلي الذي يقلب الحقائق وتتبناه الدول الداعمة لإسرائيل ما هو سوى تزييف عنصري لواقع ظالم بحقّ الفلسطينيين لا بد حتى للأعمى أن يراه. ولأن هذه الدول صاحبة عيون مفتوحة للآخر، فهي تتبنّى رواية تدرك زيفها، وتتوغّل في تزييفها، لسبب واضح، فهي لا ترى ضحايا العدوان من الفلسطينيين مساوين للضحايا الإسرائيليين في القيمة الإنسانية، وهذا ما يعبّر عن عنصرية وقحة، ولأنها وقاحة بالمعنيين، السياسي والإنساني، فهم لا يرون ما يجري في غزّة كارثة انسانية، بل على العكس حرب "دفاع عن النفس" من أكبر قوة عدوانية في المنطقة.
العنصرية التي تمارسها هذه الدول بحق شعوب الدول الفقيرة، والتي تتجلى اليوم في التعامل مع هذا العدوان، سياسة يمكن رؤيتها في كل مكان في هذا العالم، حيث تتناقض مصالح هذه الدول مع قضايا حقوق الإنسان، ما يجعلها تتحوّل إلى سياسات عنصرية، تكون الحساسية الإنسانية تجاههم أقلّ من أن يكونوا بشراً، اليوم، العنوان قطاع غزّة، وغداً عناوين أخرى في الدول الفقيرة.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.