غزّة وخطأ فوكوياما
يبدو أن المفكر الأميركي الياباني الأصل، فرنسيس فوكوياما، قد جانبه الصواب حين تحدّث، في أطروحته "نهاية التاريخ"، عقب نهاية الحرب الباردة، عن انتصار الديمقراطية الليبرالية على بقية الصيغ البشرية للحكم، وأن تاريخ الاضطهاد والنظم الشمولية قد ولى وانتهى، وأن الأمر للفكر الديمقراطي ليمدّ بساطه على المعمورة، ولكن ما حصل تفرّد النظم الليبرالية وتسلطها بقيادة أميركا، والظهور الطافح لفاشيات كامنة، حيث فقد الحاكم الغربي الديمقراطي الليبرالي إنسانيته، وبقيت الشعوب الغربية تحاول أن تخرج من دائرة العصف الأيديولوجي لأنظمتها التي فقدت، بشكل مخيف منظومة القيم والأخلاق، وتبنّت قيما متحرّكة، وأخلاقا غير ثابتة بمعايير متغيرة ومكاييل متعدّدة. وليس أدلّ على هذا من المواقف التي اتخذها قادة غربيون بعيدا عن إنسانيّتهم، فقد امتنعوا عن إدانة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها آلة القتل الفاشية الإسرائيلية، والتي كانت مدفوعة بشهوة تدميرية مجنونة للانتقام، وبالنزوع نحو إبادة الفلسطينيين الذين أسقطوا هيبتها وداسوا على صورة جيشها "الذي لا يُقهر".
لم تكن غزّة تنعم قبل "طوفان الأقصى" بالرفاهية والاستقرار والحرّية، بل كانت ترزح تحت نير حصار إسرائيلي خانق، برّا وجوا وبحرا، زاد طينه بِلة تضييق الجانب المصري، فتحوّل القطاع إلى سجن كبير يعاني فيه معتقلوه مرارة الفاقة والقهر والعدوان وتنكيل المحتل بهم في كل مرّة، يريد فيها استعراض قوته العسكرية العاتية.
المفارقة المختلة أن الدول الغربية التي أقرت في الأمم المتحدة حقّ تقرير مصيرالشعوب لنيل استقلالها وحريتها، تستنكر استخدام القوة لنيلهما، وتعتبر ذلك إرهابا وعنفا مقيتا
كان السابع من أكتوبر انتفاضة المستضعفين على المحتل، وهي، بحسب القانون الدولي، مقاومة مشروعة لأجل نيل الحقوق، إلا أن المفارقة المختلة أن الدول الغربية التي أقرت في الأمم المتحدة حقّ تقرير مصيرالشعوب لنيل استقلالها وحريتها، تستنكر استخدام القوة لنيلهما، وتعتبر ذلك إرهابا وعنفا مقيتا. وتمنح في المقابل الحق للمحتل في التنكيل بأهل غزّة والعدوان عليهم وقتلهم وأطفالهم وتحويل بيوتهم إلى ركام، بل لقد بالغ قادة غربيون في تبرير ما تقوم به إسرائيل من قتل عشوائي لآلاف الأبرياء من الأطفال والنساء، واستباحة وتدمير المساجد والكنائس وقصف المستشفيات ونبش القبور، كالذي حصل في باحة مستشفى الشفاء، حيث أخرجت جثث الشهداء من القبر الجماعي، و كذلك استهداف مدارس وكالة الغوث الأممية التي تؤوي آلاف النازحين لإجبار سكّان القطاع على الهجرة. وسكتوا عن قطع المياه والكهرباء والوقود والاتصالات، وعن منع دخول الإسعافات الطبية، والمساعدات الإنسانية من أغذية وحاجات أساسية إلى المحاصرين في غزة، وتركوهم يواجهون الموت البطيء أو التهجير القسري.
إلا أن الضغط الشعبي والتظاهرات العارمة التي اجتاحت مدن الغرب، والتي نجمت عن الصور المروّعة على الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي للأبرياء من الشيوخ والأطفال والنازحين الذين تدكّهم آلة القتل الإسرائيلية بلا رحمة ولا شفقة، أثرت في توسيع الهوّة بين الحكام والشعوب الغربية، فالدم الفلسطيني المُراق في غزّة وحده من أيقظ ضمائر أحرار الغرب، بعيدا عن مناشدات النظم العربية والإسلامية التي لم تفلح سوى في صياغة البيانات الجوفاء، كبيان القمة العربية الإسلامية التي عقدت في الرياض 11 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، حيث لم يحمل أي من بنود بيانها الختامية ما يمكن أن يشكل ضغطا على الصهاينة أو حتى يقلل من جنونهم المحموم، وقد تعرضوا رغم ذلك المؤتمر الهزيل والبيان الفارغ للتوبيخ من نتنياهو وقال لهم : "عليكم التزام الصمت فقط ومُهاجمة حماس".
منذ انساق الغرب وراء النزق الأميركي، وقع في مأزق أخلاقي، واختبار جدّي لمدى صدقيته
منذ انساق الغرب وراء النزق الأميركي، وقع في مأزق أخلاقي، واختبار جدي لمدى صدقيته، فهو يخالف السردية التي ما فتئ سياسيوه يردّدونها لكل منتهك للأعراف والقوانين الإنسانية الدولية، وقد عبّر عن هذا المأزق مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، الذي قال في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي فى كلمته أمام مؤتمر السفراء الأوروبيين فى بروكسيل "إن الاتحاد الأوروبى ملزم أخلاقيا وسياسيا بالمساهمة فى إيجاد حل سياسى للنزاع في المنطقة، إذا لم ننجح سنكون فى دوامة من العنف والكراهية المتبادلة لأجيال"، كما أكد قلقه بشأن الأوضاع الصعبة والمأساوية في قطاع غزّة والضفة الغربية، مشددًا على ضرورة وقف استهداف المدنيين وضرورة إطلاق سراح المحتجزين.
هذا السقوط لصدقية القيم المعلنة، وفي اتساق معايير السياسات المنتهجة في العدوان على غزّة، يظهر جليا في ما فعله الرئيس الفرنسي، ماكرون، الذي حظرت حكومته والحكومة الألمانية التظاهرات الداعية إلى وقف الحرب في غزّة، حيث سارع إلى إيضاح كلام صدر عنه، وفُهم منه أنّه يدعو إسرائيل إلى وقف قتل المدنيين في غزة، ليرجع ويقول: "إنّه لم يكن يقصد أنّ إسرائيل هي من تعرّض حياة المدنيين للخطر". وجاء هذا التراجع بعد توبيخ مباشر من رئيس الوزراء الإسرائيلي، نتنياهو. وفي الإطار نفسه، تأتي إقالة رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك وزيرة الداخلية ذات الأصول الهندوسية، في أعقاب اتهامها قوات الشرطة البريطانية بالتساهل مع مواجهة التظاهرات البريطانية المهولة المؤيدة للفلسطينيين التي وصفتها بـ "مسيرات نشر الكراهية ودعم الإرهاب"، في وصف مستهجن لمواطنين إنكليز يعربون عن مواقفهم بحرية.
في سياق هذا السقوط الأخلاقي المريع، وفي هذه الوهدة القيمية التي تردّت فيها الحضارة الغربية، هل يمكن أن ينتهي التاريخ على هذا النموذج الغربي الرديء، يا سيد فرنسيس فوكوياما؟