غزّة لن تكون خادمة في البيت الأبيض
لا تتذكّر الولايات المتّحدة موضوع إنهاء الحرب في غزّة إلّا إذا كانت هناك أزمة مُستفحِلة في الداخل الأميركي، أو في حالة استشعار الخطر على مجتمع الاحتلال الصهيوني، خصوصاً مع اشتداد ضربات المقاومة وصمودها في مواجهة العدوان.
المقاربة الأميركية للحرب على الشعب الفلسطيني، التي تشارك فيها واشنطن بكلّ إمكاناتها العسكرية والدبلوماسية، تَحفَلُ بعديد من التناقضات ومظاهرت الارتباك، إذ تفعل الشيء وعكسه. وعلى سبيل المثال، ترفع كذباً واحتيالاً شعارات إنسانية، وفي الوقت نفسه، تساعد في ارتكاب جرائمَ ضدّ الإنسانية. وهنا، تحضر مسألة الرصيف الأميركي العائم في ساحل غزّة نموذجاً، حيث كان المُعلَن في ترويجه أنّه من أجل تسهيل وصول المساعدات الإنسانية للشعب المحاصر في غزّة، ثمّ تبيّن أنّ الشيء الوحيد، الذي استخدم فيه الرصيف بنجاح، كان المشاركة في التخطيط والتنفيذ لجريمة مذبحة النصيرات، التي أودت بحياة 274 فلسطينياً، والمعروفة في الخطاب الصهيوني - الأميركي بعملية تحرير أربعة أسرى، بحسب اعتراف وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، وأيضاً، الكشف عن زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) الجنرال مايكل إريك كوريلا، تلّ أبيب، لوضع خطّة المذبحة.
الكلام كلّه، الصادر من واشنطن عن ضرورة التوصّل إلى هدن مؤقتة أو دائمة، لا يأتي إلا باعتبار تلك الهدن وسيلةً للاستخدام أميركياً للتغطية على مذابح ينتفض لها الرأي العام في أميركا أو العالم، أو ورقة للعب في سباق الوصول إلى البيت الأبيض عبر الانتخابات المُقبلة في نوفمبر/ تشرين الثاني، وهو السباق الذي تحوّل مزاداً مفتوحاً يتنافس فيه بايدن الديمقراطي وترامب الجمهوري على أصوات الناخبين، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الاثنين ينطلقان من عقيدة واحدة هي حتمية دعم الاحتلال الإسرائيلي، واستئصال كلّ ما يهدّده من أخطار وجودية.
بعد المناظرة الأولى بين متنافسَين صهيونيَّي العقيدة والمصلحة، تذكّر جو بايدن، الضعيف المُرتبك، ورقة الحرب في غزّة، فسرّب أخباراً أنّه، رفقة الوسيطَين العربيَين، يعملون لمعالجة الثغرات في الصفقة التي تراوح مكانها منذ شهور، لكي تكون مقبولةً من الطرفَين، وهو الأمر الذي أعلنت قيادات "حماس" أنّه مُجرّد تصريحات للاستهلاك السياسي من دون أن تكون هناك مداولات فعلية في هذا الصدد.
ما في الأمر كلّه، والحال كذلك، أنّ معسكر بايدن الصهيوني بهدوء، الذي يواجه شبح الهزيمة أمام معسكر ترامب الصهيوني بوقاحة، يحاول التعلّق بأيّ قشّة تنقذه من السقوط في القاع، وبالتالي، يستدعي لعبة الهدنة علّها تأتيه ببعض الأصوات ذات الأصول العربية، وكذلك، من القطاع الواسع من الشباب الذين يزرعون ساحات جامعات أميركا وشوارعها بالغضب ضدّ جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضدّ الشعب الفلسطيني.
هنا، تصبح أيّ استجابة عربية تمنح مناورة بايدن قيمة أو أهمية شكلاً من أشكال الإسناد العربي لمُرشّح أميركي مُتعثّر، وتوظيف مأساة غزّة خادمةً لدى البيت الأبيض، في لحظة تُجمِعُ فيها مكونات المجتمع السياسي الإسرائيلي كلّها على أنّه لا مناص من استمرار تلّ أبيب في الحرب، إن في غزّة ورفح أو في لبنان، ومن يتحدّث منهم عن هدنة في غزّة، فإنّه يطرح ذلك من أجل توفير القدرة العسكرية لمهاجمة لبنان، ثمّ التوسّع إقليمياً لإسقاط إيران، كما يهذي وزير المالية القادم من اليمين الديني المُتطرّف بتسلئيل سموتريتش، وحليفه وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير.
الشاهد أنّ هذا مجتمع لا يستطيع أن يحيا من دون حروب يشنّها في أيّ مكان في المنطقة العربية يمكن أن يكون عقبة أمام أحلامه في الهيمنة، بينما، من الناحية الأخرى، لا يتوقّف العرب الرسميون عن الطواف هرولةً حول صنم السلام المُزيّف، وفي يدهم عروض التطبيع الكامل، وباليد الأخرى يسجلّون أوضح سطور الخذلان والتخلّي عن القضية الفلسطينية، والعداء للمقاومة فكرةً، ومشروعاً يتحرك في الأرض ويسجّل بطولات تعيد الاعتبار لقيمة الحرب بوصفها وسيلةً للدفاع عن الحقوق، ورفض الفناء على يد عدوّ هو الأكثر وضاعة في التاريخ.
نعم، تعيد المقاومة الفلسطينية الاحترام لمفهوم الحروب العربية، التي جرى ابتذالها طوال العقود التالية لدخول العرب قطيعاً إلى حظائر السلام الإسرائيلي القاتل، وهي العقود التي لم يحارب فيها العرب إلّا بعضهم بعضاً، ولم يعرفوا البسالة إلا على شعوبهم، تحت شعار"الحرب على الإرهاب"، الذي اخترعته كل من واشنطن وتلّ أبيب، وصار صنماً مُقدّساً عند غالبية الحكومات العربية.