غريبة في ديار أبيها

26 سبتمبر 2023
+ الخط -

بدعوةٍ من ستّ مؤسسات ثقافية مقدسية ناشطة في الأردن، وصلت الكاتبة الفلسطينية فدى جريس إلى عمّان، آتية من قريتها فسوطة في أعالي الجليل، لإشهار أول روايةٍ لها، صدرت بالإنكليزية (450 صفحة) قبل نحو عام، وحلّت بترحابٍ لافتٍ من حشدٍ لا بأس به من الكتّاب والأصدقاء، الذين استقبلوا هذه الأديبة متعدّدة المواهب بفيض من الحفاوة والاهتمام، سيما وأن نتاج فدى الثقافي (ثلاث مجموعات قصصية ومسرحية واحدة، إلى جانب روايتها "غريبة في وطني")، كان قد طاف بعض مدن فلسطين، من رام الله إلى الناصرة وبيت لحم وغيرها في الخارج، فسبقتها السمعة الطيّبة الى ديار الشتات، وعمّدتها التغطيات الإعلامية المكثفة، صاحبة جنس أدبي (في الشعر) في بلد محمود درويش وأقرانه من الشعراء الكبار.
في طريقي إلى منتدى بيت المقدس، حيث مكان الإشهار والحوار، كنت مدفوعاً بدافعين متداخلين بين الذاتي والموضوعي، الأول دافع المشاركة الوجوبية في حفل إشهار رواية الكاتبة، التي لم أرها وجهاً لوجه، منذ كانت طفلة صغيرة تمرح في بيت أبيها، صديقي العتيق صبري جريس، وأمها الشهيدة حنّة شاهين، وذلك بجوار منزلي في بيروت. والثاني دافع الفضول الصحافي ككاتب يتابع، لماماً، ما تيسّر له من أنشطة ثقافية تغص بها عمّان في فصل الصيف على وجه الخصوص، فما بالك، وهذه الفعالية الثقافية تتعلق بمآلات البنت الصغيرة وقد صارت اليوم كاتبة مشهورة داخل وطنها الأم وخارجه، الوطن الذي عادت إليه بصحبة الأب والأخ، مع عشرات الألوف، بعد اتفاق أوسلو قبل ثلاثة عقود.
بعيداً عن العاطفة الشخصية، جلست بين الحضور أرْقب إطلالة فدى بشغف، وأدقّق في أدائها روائية أمام جمهور نخبوي جاء إليها راغباً في لقاء أديبة صاعدة، ومحاورتها في مضمون روايةٍ تقصّ فيها فدى الحكاية الفلسطينية كلها، من خلال سردٍ شائق، على خلفية درامية، سيرة حياة أسرة فلسطينية صغيرة، أو قل حكاية مئات ألوف العائلات المماثلة، سواء التي هُجّرت من بيوتها بعد النكبة وبقيت لاجئة في الجوار، أو التي أُرغمت بالقوة المسلحة على مغادرة أرض الآباء، وقليلها عاد إلى مسقط الرأس، مثل أسرة صبري جريس، ليواصلوا من هناك نضالهم السياسي والفكري، تعزيزاً لبنية الرواية الفلسطينية، ودفاعاً عن حقّ العودة والحرية والاستقلال.
لستُ ناقداً أدبياً، ولم أقرأ رواية "غريبة في وطني" بعد، لذلك أنفقت وقتاً معتبراً لمطالعة المراجعات والمقابلات الصحافية الكثيرة مع فدى جريس، قبل أن أدلف إلى القاعة التي امتلأت بالحضور. وعليه، وطّدت أمري على الإدلاء بدلو صغير في بحر هذا المنتج الثقافي، بعين الناقد السياسي، خصوصا وأن هذا الإصدار مؤسّس على أرضية سياسية حاضرة في متن الرواية وهوامشها بقوةٍ شديدة، الأمر الذي هوّن عليّ القيام بهذه المغامرة الحذرة خارج مجال الاختصاص، من دون الوقوع في مغبّة الغوص عميقاً في اللجّة الزرقاء، تماماً على نحو ما درجت عليه، كلما وقفت أمام عمل روائي أثار لدي الفضول، وحملني على رمي سهم ضئيل في النقاش الثقافي الدائر حول هذا العمل الإبداعي أو ذاك، سيما إذا كانت الرواية لصديق مُقرّب أو زميل.
وهكذا، وجدتُ فدى جريس خلال الحوار في تلك الأمسية الثقافية الطويلة، كاتبة تصعد درجات السلّم الأدبي بثقة وتمكّنٍ أتى فوق مستوى التوقعات، حيث بدت الشابة القادمة من داخل الداخل الفلسطيني تعرض إصدارها الذي استعرق إنجازه عشر سنوات، صاحبة رسالة وطنية، مقاومة على طريقتها الناعمة، لديها صوتٌ خاصٌّ مميّز بالتجربة القاسية التي مرّت بها الأسرة الصغيرة أولاً، وبقوس العذابات المشتركة بين سائر أبناء شعبها ثانياً، خصوصا من بقي متشبثاً بالأرض والحلم والحقّ الذي لا يضيع بالتقادم، وهو ما يضفي على رواية "غريبة في وطني" قيمة مضافة إلى رأس المال الثقافي الفلسطيني، الذي أسهم فيه على نحو لافت شعراء وروائيون وفنانون ومفكّرون وكتاب من عرب 48، أي في الأرض التي رفرفت في سمائها رايات كبار المبدعين الفلسطينيين، ممن يضيق المجال لتعدادهم في هذا المقام.
يبقى أن فدى جريس، الكاتبة الخجولة المتواضعة، إن لم تكن قد صنعت فرقاً في نصها المشوّق هذا، أو أحدثت نقلة في مضمار الرواية الفلسطينية، في الداخل وفي ديار الشتات، فإن هذا الإصدار، الذي ستتم ترجمته إلى العربية وتسع لغات أجنبية، وفق ما وعدتنا به، جاء بمثابة مدماكٍ متميز في معمار الرواية الفلسطينية متعدّدة الأصوات.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي