"غروب" نسائي

31 مايو 2023

(Getty)

+ الخط -

فجأة، وجدت نفسي أنزلق إلى الطريق الذي لم أفكّر يوماً في الانحراف نحوه، وكنت أعتقد دوماً أنه طريق النساء اللواتي يجدن الوقت الكثير للثرثرة النسائية. وهذه، في رأيي، رفاهية لم أحظ بها يوماً، حيث سحبني عالم القراءة منذ صغري، ثم سحبتني الكتابة لأجد نفسي أسيرة نفسي. ولكن، ولأن الإنسان عدوّ ما يجهله، فهكذا بلا مقدّمات، لم أستطع أن أرفض الدعوة التي وجهتها لي إحدى قريباتي التي تعيش في بلد بعيد، حيث أنشأت "غروباً" نسائياً، كما يطلق عليه، مخصّصاً لنساء العائلة وبناتها، وكنتُ الوحيدة التي لم تسمع عن معظم الأسماء المشاركة، فيما أعرف غالبيتها على أرض الواقع معرفة سطحية لا تزيد عن تحيّة في مناسبة عائلية، أو إيماءة رأس وضحكة لا تتجاوز طرف الفم.

هكذا وجدتُ نفسي في أحد الصباحات أتلقّى إشعارات لا تتوقف من موقع فيسبوك، وتحديداً من "الماسنجر" الذي ينبئني بوصول رسائل متتالية عن طريق نغمة خاصة. وهكذا صرت ألتفت نحو هاتفي الذي أضعه في مكانه المعتاد آمناً دائماً، ولكنه هذه المرّة بات مؤرّقاً، بسبب النغمات المتتالية التي تصل إليه، والمعلنة عن وصول رسالة تلو أخرى.

كان عليّ في ذلك الصباح أن أتوقف عن الكتابة فوق جهاز الحاسوب المتنقل، وألتفت نحو هاتفي، وأنظر نحو الرسائل تباعاً. وأنا أتوقّع أن تلك الرسائل تحمل معلوماتٍ أو أخباراً مهمة، ولكنها لم تكن تزيد عن تحياتٍ صباحية مرفقة بصور للعصافير البريئة فوق الأغصان والورود المندّاة بقطرات المطر، مع أدعية وأمنيات بالطبع. وهكذا كان الجميع يفعل، وكأنه أصابته عدوى، فلم أتردّد في التقاط إحدى الرسائل المصوّرة وإعادة إرسالها إلى هذه القائمة بلا استثناء.

هكذا كنت أنتهي من أول مهمّة اكتشفت سذاجتها، فلم أكن قبل ذلك أهتمّ بإلقاء تحية صباحية أو مسائية على تلكم النسوة اللواتي يرقدن كأيقونات صامتةٍ على حسابي الخاص، ولكني وجدتُ أن هناك قواعد لهذا "الغروب"، لأن ساعات قليلة مضت وبدأ يضجّ بالشكوى، وسرت فيه عبارات الغيبة والنميمة عن النساء المتعاليات والمتكبّرات اللواتي لا يلقين التحية، ويتكبّرن عن ردّها في حال وصولها إليهن.

كان عليّ أن أكتشف أن التغاضي لن يكون مُجدياً، فهناك إشارات خاصة تكشف للجميع أنك قد قرأت كل الرسائل. ولذلك أصبح الاعتذار واجباً، ووجب عليّ أن أمضي وقتاً في التبرير، ومن أهم مبرّراتي التي يصدّقها الجميع ضياع نظارتي الطبية. ولكن يبدو أن عليّ أن أستعد لكي أقرأ المزيد من الرسائل، لكي لا تنهال عليّ ألسنة حداد غلاظ. ولم تكن تلك الرسائل تزيد عن السؤال عن الأحوال والأولاد، والإصرار على أنهن أمهات وزوجات يعشن حياة وردية مثالية، فيما يتحفّظن جميعهن عن الخوض في مشكلات صميمة أو حقيقية، ما يجعلك تعتقد أنك البائس الوحيد على هذه الأرض المنهك من مسؤوليات أولادك الاجتماعية والمادية على حد سواء، ما لم تكن تعلم حقيقة بؤس أكثرهن على أرض الواقع.

اقترحت إحداهنّ عليّ أن أدلي بدلوي، وهي تسأل في لهجة تحاول أن تبدو مرحة عن أخباري التي سيقرأها الجميع، فوجدت أن عليّ الاستمرار على الخط المرح نفسه لهؤلاء النسوة المستيقظات من نومهن، والمودّعات أطفالهن في المدارس غالباً، أو اللواتي أصبحن يعشن وحيداتٍ بعد زواج الأبناء والبنات، فهناك أجيال نسوية عدة في هذا "الغروب". ولذلك، وقعت في حيرة، ولكني لم ألبث أن طرحت سؤالاً لا يخلو من شكوى عن قطّي المنزلي، والذي أصبح يقضي حاجته في مكانٍ غير مخصّص لذلك، فهالني الكم الهائل من الآراء المطروحة، ووجدت نفسي قاسية وظالمة، ومن أعداء الحيوان، وأن هناك من ستبلغ عني جمعيات الرفق بالحيوان، لأنني السبب في وصول قطّي الأليف إلى هذا الحال، فقرّرت الانسحاب سريعاً من هذا "الغروب"، معلنةً أنني آثمة، لا أستحقّ سوى العيش مع نفسي لأكفر عن جريمتي بحق هذا الكائن البريء.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.