عين سمسار التطبيع على ساحل غزّة بعد "تطهيرها"
"لو كنت مكان إسرائيل لنقلت أهل غزّة إلى النقب وقمت بتطهيرها" ... جاريد كوشنر، في جامعة هارفارد ( 15/ 2/ 2024)
ليس مستغرباً تحريض جاريد كوشنر، مستشار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، إسرائيل على تطهير غزّة، في محاضرته بجامعة هارفارد، التي لفتت الأنظار قبل أيام بعدما نُشرت على موقعٍ تابعٍ للجامعة، فهو لا يختلف عن المستوطنين، بل إنّ "مؤسسة كوشنر" تدعم وتموّل مشاريع في المستوطنات غير الشرعية في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلتين. فإسرائيل، برأي كوشنر، يجب أن تُنهي "مهمّتها" حتى تتفرّغ لتطوير سواحل غزّة كمشروع عقاري "عالي القيمة"، وهو منسجمٌ مع سجله الصهيوني؛ فكلّ ما يراه كوشنر في غزّة مجرّد أراضٍ يجب إفراغُها من أصحابها وتطويعها من أجل غاياته السياسية، فهو رجل أعمال صهيوني متعصّب، لا يختلف عن المستوطنين تصرّفاً، وإنْ يفوقهم جشعاً بمراحل.
ليس كوشنر مواطناً عادياً يتحدّث من فراغ، فهو زوج ابنة دونالد ترامب، مرشّح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، وسيكون من أهم معاونيه حال فوزه، فضلاً عن أنه وزوجته إيفانكا من أشرس المؤيدين لعدوان إسرائيل على غزّة ولحركات المستوطنين في الضفة الغربية، ويتصرّف على أنّه من أهم محرّضيها، وأنّه جزءٌ منها أيضاً.
ما يزيد من خطورة كوشنر انخراطه في الدفع بتعميقِ التطبيع من خلال الاتفاقيات الإبراهيمية، ليس بشكلٍ رسميٍّ، وإن كان علنياً، لأنّ الخرق الرئيس الذي حقّقته إدارة ترامب بتوقيع اتفاقيات بين الإمارات وإسرائيل، وانضمّت إليها دولٌ عربية، جعل هذه الاتفاقيات ثقافةً بديلةً ومؤسّسة لها أشخاصها المرتبطون، فعلياً أو رمزياً، بها، وكوشنر من أبرزهم.
كوشنر ليس مواطناً عادياً يتحدّث من فراغ، فهو زوج ابنة ترامب، مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، وسيكون من أهم معاونيه حال فوزه
الاتفاقيات الإبراهيمية، التي وُقّعت عام 2021، كانت الحلقة الأهم في ما سمّيت "صفقة القرن" التي تعتمد على تطبيع عربي- إسرائيلي شامل، تمهيداً لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة وشطب مفهوم النكبة وتصفية القضية الفلسطينية.
عليه، استمرّ مسؤولون من الإدارة السابقة مثل كوشنر في نشاطهم، وتبعهم مسؤولون من إدارة الرئيس جو بايدن، أهمّهم جون كيري مسؤول ملف البيئة التي أصبحت عنواناً، وإن كانت أيضاً من أشكال مشاريع الطاقة، إذ تركّز من خلالها الإدارتان الأميركيتان، السابقة والحالية، على الضغط على الأردن للدخول فيها، فهي أهم مدخلٍ لتوسيع الاتفاقيات الإبراهيمية.
المهم هنا أنّ كوشنر، وإنْ كان يضرّ بآرائه المتطرّفة مشروع بايدن (المتعثر) بالتزام لفظي بإقامة دولة فلسطينية كغطاء للتوّصل إلى تطبيع إسرائيلي مع السعودية، لكنه يخدم الاتجاه النهائي نفسه، ولا يمكن، ولن يحاول بايدن وضع حدٍّ لتصريحات كوشنر الأكثر تطرّفاً، فهو ليس مسؤولاً رسمياً، وإنْ كان سيشكّل خطراً أكبر إذا عاد إلى البيت الأبيض. لكنه في حالة التجديد لبايدن، سوف يستمرّ كوشنر بنشاطاته التي تخدمه مادّياً وتخدم أجندة الصهيونية معاً.
كوشنر سمسار عقارات ممتدّة إلى ألبانيا وغيرها من الدول. والمستوطنات الصهيونية في الضفة الغربية، وأيّ مشروع في غزّة بعد الحرب، هي في نظره مجرّد فرصةٍ استثمارية، ما يعني أنّه (كوشنر) يمثل الرأسمالية المتوحّشة والمشروع الكولونيالي الاستيطاني الإحلالي في فلسطين بكل انسجام، إذ ليس هناك تناقضٌ أخلاقيٌّ أو سياسيٌّ بين الاتجاهين.
يذكّرنا المشهد بليلة الغزو الأميركي للعراق عام 2003، حين عقد مسؤولون من إدارة جورج بوش الابن اتفاقياتٍ لشركاتٍ لهم علاقة بها، أي يستفيدون من أرباحها، لصيانة وخدمة آبار نفط سيطر الجيش الأميركي عليها بعد دخوله أراضي العراق.
المقلق أنّ يصبح كلّ قطاع غزّة، من ساحل وميناء وموارد طبيعية، مجرّد مشاريع مستقبلية لحلفاء الكيان الصهيوني ومستثمرين إسرائيليين. والتسجيل الشهير لمستوطِنة من سديروت، تقول فيه، صراحة، إنّها تريد أن يدمر الجيش غزّة عن بكرة أبيها حتى تستطيع الاستمتاع برؤية مياه البحر الأبيض المتوسط من بيتها، لا يختلف عن تفكير كوشنر؛ فكلٌّ يرى أنّ فلسطين ملكية خاصة، لكن الفرق أنّ المستوطِنة تريد أن تدمّرها بهدف الاستمتاع وكوشنر يريدها مصدراً للإثراء.
يمثل كوشنر الرأسمالية المتوحشة والمشروع الكولونيالي الاستيطاني الإحلالي في فلسطين
يزور كوشنر دولاً عربية بشكل دائم، من دون أيّ تحفّظ من أحد، وقد يكون ذلك مفهوماً إلى حدٍّ ما، فهو رجل أعمال ومسؤول أميركي سابق، لكن تصريحه يجب أن يكون علامة فارقة في العلاقة معه، فلا يمكن التعامل معه وكأنّه أمرٌ عاديٌّ، فتحريضه إسرائيل "على تطهير غزّة" يقترب من التحريض على الإبادة البشرية، وهي بالتأكيد دعوة إلى القتل، وتجب مقاضاته، وليس استقباله أو التعامل معه ضمن أيّ مستوى.
لا يقتصر الأمر على كوشنر، إذ تضعنا تصريحاته أمام سؤال أخلاقي مهم؛ ما هو موقفنا؟ وما هو موقف حكوماتنا من شخصياتٍ مثل كوشنر تحرّض لإبادة الفلسطينيين؟ وكيف سيكون موقفنا إذا بدأ بالفعل استثماراتٍ عقاريةً وغيرها على سواحل غزّة أو في مواردها؟ مثال على ذلك: ماذا لو تحوّل الرصيف البحري الذي أعلن بايدن إقامته لبناء ميناء يدخله مستثمرون إسرائيليون وآخرون تحت السيطرة الإسرائيلية؟
تصريح كوشنر يجب ألّا يمر من دون ردّة فعلٍ عربية، فهو تعامل مع غزّة كأرضٍ مشاع، ومع أهل غّزة كعائق تجب إزالته. لكن، لا يمكن لومُه، فالموقف العربي في مواجهة حرب الإبادة يشجّع كوشنر للخروج علينا بتقويض إنسانية الفلسطينيين والتحدّث عن أهل غزّة، مستهينًا بحياتهم وحياتنا. وكونه يؤيّد الاستيطان لا يعني أنّه وحدَه في هذا التفكير، فمسار الحرب في غزّة يدلّ على أنّ إسرائيل وأميركا تسيران في جعل القطاع حقلًا للاستثمارات على حساب أهل غزّة، بل وحياتهم.
تدمير قطاع غزّة قد يعطي فرصة غير مسبوقة لإسرائيل للاستيلاء الرسمي على موارد غزّة
تحدّث كوشنر عن تطوير مشاريع عقارية على الساحل، لكن يجب ألّا ننسى أيضاً أنّ بحر غزّة يربض على ثروة نفطية وغازية هائلة. ففي عام 2000، أُعلِن اكتشاف حقل غني بالغاز الطبيعي يتجاوز مخزونُه تريليون قدم مكعبة، ما يكفي لإمداد كلّ فلسطين المحتلة بالطاقة، لكن قرار الفلسطينيين بالتنقيب واستخراج الغاز الطبيعي خضع لمفاوضات مستمرّة، إذ تريد إسرائيل فرض شروطها السياسية والأمنية، والاستيلاء على الثروة الموجودة تحت أراضيهم، لكن الوضع الآن قد تغيّر إلى الأسوأ، بمعنى أنّ تدمير القطاع قد يعطي فرصةً غير مسبوقة لإسرائيل للاستيلاء الرسمي على موارد غزّة.
ولم يكن كوشنر ليتحدّث، صراحةً وعلانيةً، عن تطهير غزّة من أهلها، ويدعو إلى استيلاء إسرائيل على ساحل غزّة لتطوير مشاريع عقارية فيها على أجساد الفلسطينيين، لو كان يتوقع ردّة فعل عربية عنيفة ورافضة لتصريحاته.
لكن ترْكَ أهلِ غزةَ هدفاً لصواريخ الجيش الإسرائيلي وإجرامه، وللجوع والمرض، جعل غزّة لقمةً سائغةً لكوشنر وأمثاله، وبخاصة إن نجح ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، وإن كان بايدن ليس أقلّ سوءاً، لكن اهتمامه بالتطبيع الإسرائيلي السعودي قد يضخِّم جموح وحوش الرأسمالية الصهيونية وأتباعهم. وفي النهاية؛ تتحمّل الأنظمة العربية وزر تعريض غزّة وأهلها إلى القتل وما يتلوه من استباحةٍ لمواردها ومستقبلها، فاستمرارها بالتطبيع هو ضوء أخضر لإسرائيل وكوشنر وغيره، والأجيال المقبلة لن تنسى.