عودة طالبان القديمة

11 أكتوبر 2021
+ الخط -

تنطبق بدقة مقولة "الطبع يغلب التطبّع" على حركة طالبان، فقد حرصت الولايات المتحدة على تبرير الانسحاب من أفغانستان بأسباب مختلفة، منها حدوث تغيير حقيقي في سلوك الحركة وتوجهاتها العامة. بل إنّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن طرحت لائحة مطالب على "طالبان" قبل إتمام الانسحاب، في مقدمتها، وقد بدت أقرب إلى الشروط؛ ألّا تتحوّل أفغانستان إلى مأوى للإرهابيين ومصدر تهديد للولايات المتحدة أو أي من حلفائها، وتغيير سلوك "طالبان" نفسها تجاه الشعب الأفغاني، وبشكل أكثر تحديداً، السماح للمرأة الأفغانية بالتعلم والعمل، وكذلك حماية حقوق الأقليات والفئات التي كانت الحركة تعتبرها في الماضي "مارقة".
مقابل هذه المخاوف والمطالب الأميركية، حرصت "طالبان" على طمأنة العالم، وليس فقط الولايات المتحدة. وقدّمت تعهدات علنية بلسان كبار المسؤولين فيها، أبرزها تصريحات المتحدث الرسمي باسمها، ذبيح الله مجاهد، أنّ الحركة تتعهد بألّا تكون أراضي أفغانستان مصدر تهديدٍ لجيرانها أو للعالم. فوفقاً له، ترى "طالبان" أنّ "هناك اختلافاً هائلاً بين ما نحن عليه الآن وما كنا عليه قبل عشرين عاماً"، أي أنّ الحركة تنطلق من النموذج الأصلي المتطرّف، وبالتالي، فإنّ أيّ إجراءاتٍ متطرّفة تقوم بها حالياً هي في نظر "طالبان" مرونة، بل تنازل، مقارنة بما كان يجب تطبيقه.
وهنا تتضح حقيقة الخطاب المعتدل والرسائل الإيجابية التي تبنتها "طالبان" في الفترة القصيرة التي صاحبت خروج القوات الأميركية، إذ كان الأمر متعلقاً بتمرير فترة الخروج الأميركي بسلام، من دون استفزاز لا لواشنطن وللعالم، حتى تُحكم "طالبان" سيطرتها على الحكم والوضع الميداني في أفغانستان. لذا استمرّت لغة المهادنة تجاه الأميركيين والغرب والعالم، حتى دانت السيطرة للحركة على كلّ الولايات الأفغانية. ومن بعدها بدأت "طالبان" تتراجع تدريجياً عن الخطاب الليّن، بالتوازي مع اتخاذ إجراءاتٍ تعكس روح التشدّد والتطرّف، فبدأ بالفعل تقييد حركة النساء، بما في ذلك فرض قيودٍ على حركة طالبات المدارس والجامعات. كما تم إعدام مواطن كان مسؤولاً كبيراً في إحدى الولايات، على خلفية اتهاماتٍ بالفساد. وبدأت مجموعات أمنية تابعة للحركة في بسط سيطرتها على الشوارع الأفغانية، ليس فقط لحفظ الأمن، لكن أيضاً لمنع أي انتهاكاتٍ أو خروقٍ قانونية أو أي تصرّفات يراها الأفغان طبيعية، فيما تعتبرها حركة طالبان غير شرعية.
هذه التراجعات كفيلةٌ ليس فقط بإثارة القلق من مستقبل أفغانستان تحت حكم "طالبان" لكنها أيضاً تدعو إلى التساؤل عن حقيقة تطور فكر الحركة وتطور إدراكاتها للسياسة والحكم ومقتضياتهما. وليس أدلّ على ذلك من غموض موقف الحركة وتذبذبه من بعض التنظيمات الإرهابية، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، وتحديداً ما يعرف بولاية خراسان التابعة للتنظيم. وهنا يتجلّى المأزق الذي دخلته "طالبان" بإرادتها، بغية تمرير الخروج الأميركي واحتلال منصّة الحكم في أفغانستان، فالحركة المصنّفة إرهابية لدى الولايات المتحدة منذ سنوات طويلة خاضت عملية تفاوضية طويلة مع واشنطن، وتوصلت خلالها إلى تفاهماتٍ وتعهدات، فيما هي تستضيف جماعاتٍ مسلحة وتنظيمات إرهابية، بدأت بالفعل في ممارسة عمليات إرهاب ضد المدنيين. بدأت بتفجير في محيط مطار كابول في أثناء خروج القوات الأميركية، ثم تطوّرت إلى تفجير انتحاري في مسجد بولاية قندوز قبل أيام، قضى فيه 60 من أقلية الهزارة الشيعية.
في ظلّ هذا التناقض، مستقبل أفغانستان مفتوح على الاحتمالات كافة، لكنّ أقربها إلى المنطق، واتساقاً مع سلوك "طالبان" الفعلي، وليس التعهدات الكلامية، أنّ شبح "طالبان" التنظيم الذي هدم تماثيل بوذا قبل عشرين عاماً لم يتبدّد كلياً، بل بدأ يلوح في الأفق الأفغاني من بعيد.

58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.