عودة الجامعة العربية إلى النظام السوري
من دون أن يتغيّر شيء في سورية، ومن دون تنازل كبير أو صغير من النظام الذي دمر بلده وقتل عشرات آلاف السوريين وشرّد الملايين، قرّر اجتماع وزراء الخارجية العرب المنعقد في القاهرة في السابع من شهر مايو/ أيار الجاري، إعادة النظام السوري إلى "اجتماعات مجلس الجامعة العربية وجميع المنظمات والأجهزة التابعة لها".
بعد أكثر من 11 عاماً من تعليق عضوية النظام السوري في جامعة الدول العربية، بموافقة 18 عضواً ومعارضة ثلاثة وامتناع عضو واحد، يعود النظام السوري إلى شغل مقعده في الجامعة، بعد جرائم لا تعدّ ولا تُحصى ارتكبها خلال هذه السنوات بحقّ السوريين على امتداد مساحة سورية. وبهذا القرار، لا تعيد الجامعة هذا النظام إلى مؤسّساتها، بل هي التي تعود إليه، في دلالة على تردّي مؤسّسات جامعة الدول العربية، ووصولها إلى درك سفلي بدعوة مجرم حرب بكل معنى الكلمة، ليعود إلى مؤسّساتها. وليس هذا القرار إهانة للضحايا السوريين فحسب، بل هو إهانة لكل عربي تتكلم جامعة الدول العربية باسمه.
بعيداً عن الغضب الذي يشعر المرء به تجاه هذا القرار الذي كان متوقعا، يعطينا تحليله صورة مخزية عن الواقع الرسمي للمنطقة، ليست عن واقع النظام السوري القاتل ونجاحه في تسويق نفسه مدّعياً نصراً مزعوماً على مؤامرة كونية، وأن الآخرين الذين تأمروا عليه عادوا إليه لأنه على حقّ، بل صورة الأنظمة الأخرى التي ترى في عودة النظام السوري إلى جامعة الدول العربية مصلحة سورية، وتساوي بين النظام وسورية، رغم كل الكلام الذي يسوّقه البيان بالحديث عن تسوية وحوار بين السوريين، إلا أن القاصي والداني يعرفان أن النظام السوري لم يقدّم، وليس على استعداد لتقديم، أي تنازل سياسي داخلي للوصول إلى حل سياسي، وهو ما تسبّب بوصول الوضع السوري إلى ما وصل إليه من وضع كارثي بات الخروج منه صعباً، إذا لم نقل مستحيلاً. وهذا الوضع مسؤولية النظام بالكامل، فقد استباح هذا البلد من أجل الحفاظ على سلطة العائلة وامتيازاتها، والتعامل مع البلد على أنه مزرعتهم والسوريين بوصفهم عبيدهم.
شكّلت الصراعات العربية ـ العربية جزءاً من صورة النظام العربي ممثلاً بجامعة الدول العربية
ليس جديداً القول إن النظام العربي عاش ويعيش حالة من الضعف وعدم الفعالية، خصوصا بالنسبة للقضايا العربية المتعلقة بالصراعات في المنطقة والمتعلقة بالموقع والنفوذ الإقليمي، الذي لا وزن جدّيا فيه لهذا النظام وأعضائه في تقرير الحيز الجيوسياسي الذي يعيش فيه، وهذا لم يكن يوماً يليق بالدول العربية وبقوّتها الحقيقية، وبدل أن تعمل هذه الدول على تجاوز هذا الضعف، عاشت صراعاتٍ بينية زادت من ضعفه وقدرة الآخرين على التأثير على المنطقة وصناعة تاريخها ومستقبلها. لذلك، ليس من المبالغة القول إن جامعة الدول العربية لم تكن أكثر من إطار شكلي، وهي لم تساهم فعلياً في حل أي من النزاعات العربية ـ العربية، وأن قدرتها على التأثير على أعضائها محدودة جداً، وهذا ما نعرفه من خلال مراجعة كل النزاعات والصراعات العربية ـ العربية التي جرت منذ تأسيس الجامعة، وأن التأثير على هذه الصراعات دائماً ما جاء من أطراف خارج هذه الجامعة. ولم تتورّع أطراف النظام عن الاستعانة بقوى أخرى من أجل حمايتها من أعضاء آخرين في النظام، أو من حمايتها من أطراف إقليمية. ولم تقتصر هذه الاستعانة على أطرافٍ مثل الولايات المتحدة فحسب، بل وفي الزمن الرديء هذا لم يتورّع أطراف من النظام عن الاستعانة بإسرائيل والتحالف معها من أجل حمايتهم من أطرافٍ إقليمية أخرى، رغم كل الجرائم التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين، والذي يُفترض أنهم عضو فاعل في جامعة الدول العربية.
شكّلت الصراعات العربية ـ العربية جزءاً من صورة النظام العربي ممثلاً بجامعة الدول العربية، وقد وصلت الصراعات بين أطرافه إلى حدّ الحرب، أو حتى احتلال دولة عربية أخرى. ورغم ذلك، حافظت الجامعة على صورة شكلية لتجمّع عربي، لكنه صورة بلا أي فعالية، وهذا ما أثّر بشكل حاسم على مكانة الدول العربية ودورها ليس فقط في تقرير مصير المنطقة، الذي ترك للآخرين، بل وحتى في تقرير مصير عديد من أعضائه. وبدلاً من أن تصنع هذه الدول، بتعاونها الجماعي، مستقبل المنطقة ومستقبلها بتعاون بيْني، بقي التعاون الجماعي في حدّه الأدنى، إذا لم نقل إنه كان معدوماً.
بالمصالحة مع النظام السوري، تعلن جامعة الدول العربية نفسها طرفاً معادياً للشعوب العربية
هذا كله عندما كانت الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية تملك استقرارها الداخلي إلى حدّ ما، ولكن مع انطلاق الثورات العربية، أصبح على جامعة الدول العربية التعامل مع أوضاع غير مسبوقة، صراعات مريرة بين أنظمة شرسة وشعوب لم تعد قادرةً على العيش تحت ظل أنظمة فاسدة وقمعية. وهو ما عمّ دولا عربية عديدة، وفي مقدمتها عضوها الأكبر مصر. والمفارقة أن الثورات العربية في البلدان الأخرى استطاعت أن تطيح رأس النظام، بصرف النظر عن المصير الذي آلت إليه هذه الثورات بعد ذلك، وإمكانية عودة النظام نفسه إلى الإمساك بالبلد من دون رأسه، إلا أن النظام الذي استطاع مواجهة ثورة شعبه بوحشية استثنائية والبقاء في السلطة، كان السوري. وقد أربك الواقع الجديد جامعة الدول العربية الهشّة والضعيفة، والتي زادت ضعفاً وهشاشة، مع مزيد من الضعف لأعضائها، وكان الاستنتاج الباطني الذي وصلت إليه أطراف النظام العربي أن الثورات العربية هي التي تسبّبت بالواقع المزري الذي تعيشه المنطقة. ولذلك اتخذت القرارات المعادية الضمنية لهذه الثورات، على مستوى دعم سلطات الدولة العميقة للأنظمة السابقة التي بقيت تُمسك بالسلطة في بلدان الثورات العربية.
واليوم، بالمصالحة مع النظام السوري، تعلن جامعة الدول العربية نفسها طرفاً معادياً للشعوب العربية، وما استعادة العلاقة مع النظام المجرم سوى دلالة رمزية على نظرة أعضاء الجامعة المزدرية للشعوب العربية ولآلام ضحاياها. لكن دم الضحايا السوريين، باستعادة النظام هذه، لن يلاحق النظام ومجرميه، بل سيلاحق من احتضنه بعد كل هذا الدم السوري المسفوح.