عن موت السجناء في مصر ..
قضية السجناء المصريين عصية على الحل، وضمن جوانبها أزمة أوضاع أماكن الاحتجاز. تتواتر الأخبار والشكاوى بشأن ظروف السجن القاسية؛ الإهمال الطبي وتدنّي الرعاية الصحية، سوء التهوية واكتظاظ أماكن الاحتجاز، ظروف تُبقي الأجساد رهينة الإصابة بالأمراض، واحتمالية الموت قائمة وحالاته متكرّرة، خصوصا لمن لديهم تاريخ مرضيّ أو من تعرّضوا لإيذاء، ويمكن إدراك حجم الأزمة أيضاً، إذا وضعت في الاعتبار صعوبات الحصول على خدمات صحية ملائمة خارج السجون، فما بالنا بتعقيدات الظروف المحيطة بالسجين، ومنها طبعية الرعاية الصحية المقدّمة، هذا بتجاوز آثار الخصومة السياسية التي تظهر في بعض الأحيان، وتاريخ القهر المرتبط بالسجون ومراكز الاحتجاز.
وقد وجهت، أخيراً، بعض أسر السجناء، وبينهم المرشّح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، رسائل تطالب بالإفراج عن ذويهم بموجب شروط العفو، وتضامن كثيرون مع هذه الدعوة، بحكم تقدّم سن أبو الفتوح، وتراجع حالته الصحية، ما دفع الرجل إلى كتابة وصيته، حسب ما جرى تداوله من أخبار.
وشهد الشهر الماضي (أغسطس/ آب) الكشف عن وفاة ثمانية سجناء في السجون وأماكن الاحتجاز، غير ثلاث حالات موت رصدتها الشبكة المصرية لحقوق الإنسان خلال الثلث الأول من الشهر الحالي (سبتمبر/ أيلول)، وسبق أن رصد مركز النديم، ضمن تقرير حصاد القهر، وفاة سبعة سجناء خلال شهر يوليو/ تموز الماضي. وعموماً، شهدت الأشهر الثلاثة الماضية تكراراً لحالات الموت، حتى أصبح ملمحاً واضحاً ضمن أشهر الصيف، الذي يعدّ توقيتاً ترتفع خلاله حالات الموت بين المحتجزين، منها حالات مرضية مزمنة، غير ظروف صحية طارئة، كما جائحة كورونا أو حدوث عدوى ما. وتكشف عدة وفيات عن افتقاد رعاية صحية ملائمة، فضلاً عن رصد شكاوى من ذوي الضحايا باحتمال تعرّضهم لأشكال من الإيذاء، وقد تقدّم بعض الأهالي رسمياً بطلب التحقيق.
ضمن مؤشّرات مهمة بشأن الوفيات، يتكشّف قصر الفترة ما بين فترة الاحتجاز وسقوط الضحايا
وتُمكن قراءة حالات الموت في شهر أغسطس/ آب بمنظور كيفي، بوصفها حالاتٍ دالّة على أوضاع السجناء، وظروف الاحتجاز، وطبيعة القضايا، بحكم أنّ الحالات التي أمكن رصدها محدودة كمياً، وأغلبها ارتبط برصد شكاوى رسمية وأخرى وثقتها منظمات المجتمع المدني. وفي هذا السياق، وضمن إشكالات الرصد، يبرز عدم توفر بيانات رسمية لعدد حالات الموت في أماكن الاحتجاز، وذلك ضمن سياق عام لغياب الشفافية، ونقص المعلومات الشديد، بشأن ما يختص بقضايا حقوق الإنسان. ورغم محدودية الحالات التي جرى رصدها وتوثيقها، فهي تعطي مؤشّرات إلى ملابسات موت السجناء، واتهامات بالإهمال الطبي وعدم كفاية، أو تأخر، تقديم الرعاية الصحية الضرورية، ومدى تناسبها مع حالة السجين، ذلك بحكم مسؤولية الجهة المختصة بسلامة السجناء، حسب لائحة السجون والقوانين ذات الاختصاص.
خلال أغسطس/ آب، رُصدت ثماني وفيات بين المحتجزين، من بينها أربع بين الجنائيين، والأربع الأخرى لسجناء على ذمة قضايا سياسية، فلا تفرّق ظروف السجون بين أنواع القضايا، وإن لعبت الخصومة السياسة عاملاً مضافاً يزيد قسوتها في بعض الأحيان، وبين وفيات سياسيين ومواطنين ألقي القبض عليهم خلال شهري يوليو/ تموز وأغسطس/ آب الماضيين، أي محتجزين قيد التحقيق، أو الحبس الاحتياطي، ما يشير أولاً إلى استمرار سياسة التوقيف والاحتجاز على خلفية قضايا سياسية، منها بثّ أخبار كاذبة ونشر إشاعات، وهي تهمٌ ما زالت مستمرّة، وسجن بسببها آلاف المصريين، وتستخدم نوعية هذه القضايا سياسة لبثّ الخوف والضبط السياسي وإحكام السيطرة، وليكون الشاغل الأول خروج أسرى السجون، وبث الخوف، ثم الرجاء بانفكاك أزمة السجناء، ولا يُلتفت إلى ما دونها من قضايا، نوعاً من الإرباك وتعزيز الخوف في وقت واحد.
وثانياً، وضمن مؤشّرات مهمة بشأن الوفيات، يتكشّف قصر الفترة ما بين فترة الاحتجاز وسقوط الضحايا، ما يعني زيادة الوزن النسبي لظروف السجن وبيئته سبباً مباشراً للموت، خصوصاً أنّ معظم الوفيات وقع بعد أيام من الاحتجاز، سواء مع المتهمين الجنائيين أو السياسيين، وبين وفيات السياسيين، هناك ضحية، سبق تدويره في قضايا عدة منذ العام 2014، ما يكشف جزءاً من أزمة السجناء عموماً، تتمثل في إعادة سجنهم في قضايا جديدة، كلما جرى الإفراج عنهم، سواء في قضاء عقوبة أو بانتهاء فترة الحبس الاحتياطي.
عدسة التمييز الاجتماعي غالباً ما تكون واضحة في بعض حالات العنف، حيث يُنظر إلى رقيقي الحال، وفئات مفقرة من طبقات شعبية، بوصفهم مصدراً للجريمة
وعمرياً، كلّ أصحاب القضايا السياسية الذين توفوا في السجون المصرية فوق سن الأربعين. وهناك تنوع مهني بينهم، مهندسون وعقيد متقاعد ورجل أعمال، وكأنهم تجسيد لفئات من الطبقة الوسطى التي نشطت سياسيا خلال ثورة يناير. بينما كانت الوفيات وسط الجنائيين من الشباب، ويعملون حرفيين وعمّال خدمات وموظفين صغاراً، وقبض على حالتين منهم في كمائن الشرطة، ووقعت الوفاة في ثلاث حالات منها بعد الاحتجاز بأيام معدودة أيضا، ما يشير إلى تزامن القهر الاجتماعي على طبقاتٍ مفقرةٍ مع العنف وظروف الاحتجاز.
وتجدر هنا الإشارة إلى أنّ عدسة التمييز الاجتماعي غالباً ما تكون واضحة في بعض حالات العنف، حيث يُنظر إلى رقيقي الحال، وفئات مفقرة من طبقات شعبية، بوصفهم مصدراً للجريمة، ومحلّ اشتباه في كمائن الشرطة، وهنا تبرز احتمالية تعرّض بعض المشتبه فيهم إلى ضروب من إساءة المعاملة والإيذاء والإهمال الذي يُنتج الموت، وهو ما يمكن تذكّره في حالات سابقة أثارت احتجاجاتٍ بسب اشتباه في موتها نتيجة التعذيب، وكانت بين طبقاتٍ شعبية ومفقرين. وفي مثال دالّ، كان بين حالات الموت، في أغسطس/ آب، سائق توك توك، شاب لم يتجاوز 19 عاماً، وتقدم والده بطلب تحقيق رسمي في واقعة موته، بعد أن لاحظ وجود إصاباتٍ في جسده، لكن النيابة نفت احتمال أن تكون الإصابات سبباً للوفاة، وقالت بجواز حدوثها نتاج سقوطه أرضا. وفي أغلب حالات شهر أغسطس/ آب، نفت الجهات الرسمية وقوع تعذيب أو عنف جنائي، أو حدوث إهمال طبي سبّب الوفيات. وكرّرت المصادر الأمنية ردودها في بيانات نشرتها الصحف تكرارا وبالنص نفسه تقريباً، واعتبرت ما نشر عن حالات الموت في السجون نتاج الإهمال أو الإيذاء دعاية وأكاذيب من جماعات إرهابية.
كما أرجعت تقارير طبية، حسب ما نشرت الصحف، بعض الوفيات إلى أسبابٍ تتركّز على تراجع الحالة الصحية للضحايا، وإصابات بضيقٍ في التنفس، وحدوث هبوط حادّ في الدورة الدموية، وإعياء عضلة القلب وتوقفها. وقد شملت أماكن حدوث الوفاة السجون العمومية وأقسام الشرطة، وتكرّرت حالات الموت في محافظتي الشرقية والإسكندرية، وهو عاملٌ مشتركٌ لحالاتٍ سابقة، بينما سجّلت معظم الوفيات في المستشفيات الجامعية والتعليمية، وكانت فترة الاحتجاز الطبي داخلها محدودة، بضعة أيام، وأحياناً يصل السجين إليها وهو على حافّة الموت، أو في حالة إصابته بأنفاسٍ احتضارية، كما أفاد بيانان للنيابة عن إحدى حالات الوفاة.
وثقت منظمة العفو الدولية وفاة 56 حالة خلال 2021، ورصدت منظمة "نحن نسجل"، للعام نفسه، موت 60 محتجزاً، منهم 52 حالة لسجناء سياسيين
تتصل وقائع موت أغسطس/ آب بما سبق ونشرته تقارير لمنظمات حقوقية محلية ودولية عن استمرار حالة موت المحتجزين في السنوات الماضية، نتاج ظروف السجن وضمنها غياب رعاية صحية ملائمة، وفي ذلك شكاوى لسجناء وذويهم، خلال أغسطس/ آب 2020، توفي عصام العريان في محبسه، وهو الذي سبق أن طالب في إحدى جلسات محاكمته بتوفير رعاية صحية ملائمة لتفادي موت سجناء جدد، وضرب مثالا بإصابته بفيروس الكبد الوبائي عام 2016، بينما لم يسمح له بتلقي العلاج في معهد الكبد. وخلال نهاية أغسطس/ آب وبداية سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، توفي أربعة سجناء في مراكز الاحتجاز. بينما وثقت منظمة العفو الدولية وفاة 56 حالة خلال 2021، ورصدت منظمة "نحن نسجل"، للعام نفسه، موت 60 محتجزاً، منهم 52 حالة لسجناء سياسيين. بينما تذكر إحصائيات مجمعة لمنظمات حقوقية أنّ الوفيات منذ 2014 تقارب ألف سجين. ويعتمد الرصد غالبا على ما يُنشر في الصحف أو نتاج توثيق لمنظمات حقوقية ومحامين. وقد كانت بعض الوفيات محل تحقيق رسمي، إلّا أنّ إحصائيات المنظمات الحقوقية هي في النهاية رهينة أدوات الرصد، وما يمكن كشفه، بينما لا تنشر مصلحة السجون، ولا وزارة الصحة، إحصائيات بشأن وفيات السجناء.
لا تقتصر قسوة السجون وأماكن الاحتجاز على آلاف السجناء في قضايا الرأي، ومنهم المحبوسون احتياطيا فترات طويلة، نظرا إلى إعادة تدويرهم في قضايا جديدة، بل يتعرّض السجناء الجنائيون، حسب الرصد والتحليل السابق، للظروف القاسية نفسها، بما فيها من إساءة المعاملة والإهمال الطبي وقسوة ظروف السجن. ويستدعي هذا كله مراجعة شاملة لتجاوز هذا الوضع، وما يترتب عليه من انتهاكات، وبينها، كمحصلة نهائية، تكرار حالات الموت. ويجب تعامل القوى الإصلاحية معها بوصفها تحدّيا قائما، ومشكلة ذات طابع مأساوي، غير أنّها انتهاك للقانون والدستور، ويمكن أن يساهم حلّ هذه المشكلات جزئياً في تحسين أوضاع السجناء وظروف سجنهم، حتى موعد حصولهم على حريتهم، وجبر الضرر، وأن تكون الخطوات في هذا السبيل جزءاً من إصلاح المنظومة العقابية ككلّ، تؤسّس مستقبلاً لنظامٍ عادلٍ تتراجع خلاله نسب الموت في السجون، وتقل أعداد السجناء بخطوات تالية ذات صلة.