عن قدرة معارضي الانقلاب في تونس على وقفه
تتّجه تونس إلى استفتاء على دستور جديد في غضون أقل من شهرين، بعد أن اجتمع، أول من أمس (السبت)، المشاركون في "الحوار الوطني" الذي دعا إليه الرئيس قيس سعيّد تحت لافتة "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، من أجل رسم التوجّهات الكبرى العامة، سواء القانونية أو الاقتصادية التي ستحدّد معالم الدستور الجديد، في غياب تام لجل القوى السياسية ذات الثقل، سواء حركة النهضة أو الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، على غرار حزبي التيار الديمقراطي أو الجمهوري، أو التي شكلت سابقا اليسار الراديكالي في ما كان يطلق عليها الجبهة الشعبية، أي حزبا العمال والوطنيين الديمقراطيين الموحد.
يجري هذا الحوار، بقطع النظر عن مشروعيته وشرعيته، من أجل طمس معالم عشرية انتقال ديمقراطي يتحسّر الآن طيف واسع عليها، بمن فيهم حتى الذين ساهموا، بشكل أو بآخر، في تعثّره، سواء بمعارضتهم العدمية الحاكمين، أو بتشجيعهم على مطلبيةٍ شلّت المرافق العمومية، وساهمت في دفع البلاد إلى حافّة الإفلاس. ما كان للانقلاب أن يصل إلى هذه المرحلة المتقدّمة، لولا عجز النخب السياسية والحزبية وغيرها عن إيقاف عربة الفوضى والعبث التي تجرف كل شيء يعترضها. ستُحفظ لهؤلاء مكانة استثنائية لتصدّيهم للانقلاب بأشكال مختلفة، وفي فترات متعدّدة، فبعضهم عارضه، منذ الإعلان عنه ليلة 25 جويلية (يوليو/تموز) من السنة الفارطة، وآخرون تردّدوا والتحقوا متأخرين، ظلوا يتحيّنون الأمارات الدالّة على الخطر الحقيقي الداهم الذي لا يهدّد الديمقراطية فحسب، بل المنجز السياسي الذي راكمته النخب طوال تاريخ الدولة الوطنية: المكونات الحزبية، المنظمات الوطنية، نسيج مجتمع مدني، فصل السلطات، استقلال القضاء.. إلخ. لا يتعلق الأمر هنا بمدى التطابق الواقعي بين هذه المقولات وحقيقتها على أرض الممارسة التي تثبت طبعا بعض الفجوة. ولكن الأمر يشمل الاستهانة بهذا كله في ثقافة الناس وقيمهم. كيف يمكن، مثلا، أن نقنع طالب حقوق بأهمية علوية الدستور، وبضرورة الفصل بين السلطات، وهو يرى أمامه درسا بليغا في عبث ما يجري في بلاده، المخالف تماما الأبجديات المدرسية.
تكاد الشهادات التي رواها قضاةٌ معزولون في أثناء الجلسة العامة للمكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين، يوم السبت الفارط، تسفّه تماما الاتهامات الموجهة إليهم
ويصبح الأمر أكثر وبالا، حين يتعلق برجل الشارع العادي الذي كان يتمنّى أن يُنصفه قضاء عادل، فإذا به يرى قُضاةً يعزلون بجرّة قلم ظلما وعدوانا. تكاد الشهادات التي رواها قضاةٌ معزولون في أثناء الجلسة العامة للمكتب التنفيذي لجمعية القضاة التونسيين، يوم السبت الفارط، تسفّه تماما الاتهامات الموجهة إليهم، فقد جرى عزلهم لأنهم خالفوا قضاء التعليمات، تحت ضغط أوساط عائلية وتدخّلها، وتحت ضغط مباشر من أعلى هرم السلطة التنفيذية. وبقطع النظر عن دقّة هذه التفاصيل، فإن الأخطاء التي تتتالى تدفع بمزيد من تعبئة الموارد المناهضة للانقلاب، فمن هم مناهضو الانقلاب، ولماذا ظلت مقاومتهم ذات أثر محدود؟ بعد ما يقارب عن عشرة أشهر من الانقلاب، يمكن أن نميز بوضوح بين ثلاث ديناميات تقف حاليا في وجه الانقلاب:
جبهة الخلاص الوطني التي يتزعمها الزعيم التاريخي للمعارضة التونسية، أحمد نجيب الشابي، وقد سُجن في عهد الرئيس بورقيبة، وخاض إضرابات جوعٍ في عهد الرئيس بن علي، ثم خاض تجربة الحكم بعيد رحيل بن علي. اختفى تقريبا عن المشهد السياسي، ثم أعاده الانقلاب إلى واجهة الأحداث. يلتفّ حوله في الجبهة حاليا الإسلاميون، ومن شكّلوا معهم تحالف ما بعد انتخابات 2019 التي جاءت بالرئيس سعيّد نفسه. تتنوّع التعبيرات السياسية والأيديولوجية لمكونات الجبهة، من أقصى "اليمين الديني" إلى أقصى اليسار، خصوصا بعد أن انصهرت مع "مواطنون ضد الانقلاب". يحسب لهذه الجبهة أنها أول من ناهض الانقلاب وسمّاه باسمه. كانت قد بادرت إلى التحرّك في الشارع ولحقتها التوقيفات والاعتقالات. يستغل خصومها مساهمة بعض مكوناتها في تجارب الحكم، بغرض إضعافهم والعمل على شيطنتهم، ويحمّلونهم مسؤولية ما آلت إليه البلاد، وهم الذين سلّموا البلاد إلى الرئيس سعيّد على طبق من ذهب، حسب تقديرات هؤلاء الخصوم.
يقدّم خبراء للرئيس وصفة جاهزة: إيقاف التفرّغ النقابي للمسؤولين، ودفع المبالغ المالية التي في ذمة الاتحاد إلى صناديق الضمان الاجتماعي
أما تنسيقية الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، فقد قادت، يوم 4 يونيو/حزيران الجاري، تحرّكا ميدانيا أمام الهيئة العليا للانتخابات، في تظاهرة من "أجل إسقاط الانقلاب"، وهي الحملة التي افتتحتها من أجل إفشال الاستفتاء المزمع إجراؤه يوم 25 الشهر المقبل (يوليو/تموز)، في تزامن مع الذكرى الأولى للانقلاب وذكرى إعلان الجمهورية سنة 1959. يشكل حزب التيار الديمقراطي وحزب العمّال وحزب التكتل من أجل العمل والحريات والحزب الجمهوري، النواة الصلبة للجبهة التي استطاعت، بعد حوارات شاقّة، أن تلتقي حول أرضيةٍ دنيا تعمل على إسقاط الانقلاب. من بين الشخصيات البارزة لهذه الجبهة الزعيم اليساري حمّة الهمامي الذي سجن في عهدي الرئيسين بورقيبة وبن علي، والمحامي والوزير السابق محمد عبّو. وإذا كانت هذه الأحزاب قد شاركت في الحكم خلال العشرية الفارطة، إلا أنها تجتمع حول عدائها حركة النهضة أيضا، بل إن أشخاصا فيها كانوا قد حرّضوا الرئيس على الانقلاب، من خلال فتاوى قانونية عديدة قدّموها، غير أن استفراد الرئيس بالحكم المطلق وعدم تشريك بعضٍ منهم في مشروعه دفعهم، أخيرا، إلى اتخاذ مواقف تدرّجت حتى غدت راديكالية. لم يسلم بعض منهم من خطابات الرئيس الذي نعتهم بالانتهازية والفساد.. إلخ. ومن نقاط ضعفهم جماهيريتهم المحدودة نوعا ما، إضافة إلى ممارساتهم القصووية والإقصائية، حينما كان بعضٌ منهم، سواء في الحكم أو المعارضة، فضلا عن مواقفهم المتذبذبة من الرئيس سعيّد قبل الانقلاب وبعده.
وأخيرا المنظمات الوطنية والقطاعات المهنية، وهي جبهة مهمة، ستحدّد مآلات الأمور في الأشهر القليلة المقبلة، منها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قاد الحوار الوطني سنة 2014، وحاز بمقتضاه جائزة نوبل للسلام، وجمعية القضاة، وهي التي نالها السيل الجارف من خطابات الرئيس، فقد حلّ سعيّد المجلس الأعلى للقضاء، وعزل قبل أيام نحو 57 قاضيا. استشعر الاتحاد خطرا قادما، وهو يرى أن اتحاد الفلاحين يخرّب من الداخل بتعليماتٍ عليا، حسب تصريحات نائب رئيسه الذي يمضي في إزاحة الأمين العام الشرعي. ولا يستبعد الاتحاد أن يكون محلّ استهداف في مقبل الأيام، ويقدّم خبراء للرئيس وصفة جاهزة: إيقاف التفرّغ النقابي للمسؤولين، ودفع المبالغ المالية التي في ذمة الاتحاد إلى صناديق الضمان الاجتماعي، علاوة على تهمة الفساد التي يمكن أن توجّه إلى بعض قادته.
ديناميات ثلاث تواجه الانقلاب، غير أن تأثيرها محدود، في انتظار مزيد من أخطاء القطار الداهم، قد تدفع هذا الشتات إلى الالتقاء، ولو جبهوياً.