عن طائر شؤم يأبى مغادرة العراق
يدرك العراقيون أنّ دخولهم إلى العام الجديد لا يعني خروجهم من جروح العام السابق والأعوام السابقة التي ما تزال طرية وصعبة على النسيان. وحتى جروح التاريخ المعتقة لم تبرأ بعد، وقد نُكئت وأعيد نبشها كي يتفرّق القوم أيدي سبأ يتنابزون بالألقاب، وتسيل دماؤهم أكثر فلا يجدون وسيطا يفرض حكمته، أو ناصحاً يخفّف من غلوائهم، أو حتى بطلاً مستبدّاً يقيم دولته على مبدأ "العدل أساس الملك".
ولا يملكون، وهم في مواجهة ذلك كله إلّا أن يرجعوا إلى تاريخهم يقلّبون صفحاته، يقرأونها بشغفٍ ويتسلون بها بحب، وتتملّكهم "نوستالجيا" تعينهم على استجماع قواهم، عل ذلك يفيدهم في تحمل فصول التراجيديا المديدة التي استغرقتهم عقدين، ولم تترُك لهم أملاً في خلاصٍ قريب، وقد يُمارس بعضٌ منا جلد الذات، محمّلاً نفسه نصيباً من تلك المعاناة التي طالت، فيما يلوذ آخرون بالعودة إلى الأساطير والحكايات، باحثين فيها عما يمنحهم قدراً من الأمان والحلم وراحة البال، والقناعة بأنّ شيئاً لا بد أن يحدث يوماً ما.
الاحتلال الأميركي مكّن عصابة من اللصوص وقطّاع الطرق وعملاء الأجنبي من الهيمنة على السلطة والمال والقرار
وإذ شئنا أن نفلسف حالنا بعيداً عن العقل، تذكّرنا أسطورة شعبية عن طائرٍ يتشاءم منه العراقيون هو طائر الطوطي (يسمّيه العراقيون الططوة)، الذي كلما مرّ في سماء قراهم، وهو يصرخ، يصيبهم الذعر والقلق، ويتوقعون كارثةً تحيق بهم. وتقول الأسطورة إنّ أصله امرأة شريرة مسخها الخالق على شكل طائرٍ ينشر الشر والخراب أينما حلّ، ويدفع أجدادنا هذا الشر بجمع الأطفال في باحة القرية، والطلب منهم ترديد عبارة "سكين وملح .. سكين وملح" كي يفر الطائر ويرحل.
ربما تتجسّد هذه الأسطورة في التراجيديا العراقية المديدة التي حملتها غزوة الأميركيين لنا قبل عقدين، الغزوة التي مكّنت عصابة من اللصوص وقطّاع الطرق وعملاء الأجنبي من الهيمنة على السلطة والمال والقرار، ونتج عنها هذا "الرصيد" الأسود الذي سجل في حساب العراقيين: أكثر من مليون مواطن بين قتيل ومعوّق، ملايين المشرّدين والنازحين واللاجئين في أصقاع الأرض، خسارة تريليون دولار بسبب عمليات الفساد وتريليون آخر بين نهب وسرقة وتبديد، سيادة السلاح المنفلت وتصاعد وتيرة الاغتيالات والخطف والاعتقال غير القانوني، توغل المليشيات في مؤسّسات الدولة ومرافقها وتغوّلها داخل المجتمع، وزيادة حالات انتهاك حقوق الإنسان العراقي وحرياته.
التراجيديا هذه لم تتم فصولاً، وطائر "الطوطي" يأبى أن يرحل، وآخر الفصول حدث في آخر العام في مدينة جبلة البابلية الوادعة، الغافية على شط الحلّة منذ أربعة آلاف عام، والموطن الأول لإبراهيم الخليل، وهذا كله لم يشفع لها في توقي شر المليشيات وأذى رجال السلطة أكثر من مرّة، لكنّها في هذه المرّة تلقت ضربة قاصمة، طاولت أسرة فقيرة تتعيّش على الزراعة، إذ أقدمت مجموعة من ضباط "المهمات الخاصة" على مداهمة المنزل البسيط الذي تقيم فيه الأسرة بدعوى وجود تاجر مخدّراتٍ يأوي إرهابيين اثنين، ونتج عن ذلك مقتل عشرين بشرياً بريئاً من بينهم رضيع في عمر أسبوعين وآخر بعمر سبعة أشهر، و18 من نساء ورجال بأعمار مختلفة.
تسيّد رجال المليشيات على الأجهزة الأمنية الرسمية، وأمعنوا في الأرض فساداً مستخدمين العجلات الحكومية وأسلحة الدولة
ولم تستحِ الحكومة من أن تلفّق رواية بائسة عن هذه "الصولة الجهادية" التي استخدم فيها "أبطال المهمات الخاصة" القوة العشوائية والمفرطة، من دون مراعاة ضمانات الحماية التي يكفلها القانون، وأن تزعم أنّ ربّ الأسرة رفض تسليم نفسه، وحمل السلاح بوجه القوة المداهمة، ما دفعها إلى اقتحام المنزل، وكان أن فوجئت بجثث القتلى العشرين الذين قتلهم ثم انتحر، ولحقت بهذه الرواية رواياتٌ أخرى من هذا المسؤول أو ذاك، سعت إلى اعتبار الواقعة "حادثة فردية" داعية إلى التعقل والتهدئة. وأراد بعضها التغطية على المجرمين الحقيقيين من ضباط الدولة الذين نفذوا المجزرة بدم بارد، لصالح أحدهم الذي يرتبط بالمتهم بصلة قرابة، وقد أقدم على فعلته الإجرامية إثر خلاف عائلي، كما ظهر أنّ رجل الأسرة موضع الاتهام لم يكن تاجر مخدّرات، ولا صلة له بأيّ نشاط إرهابي.
وعرف الناس أنّ هذه الواقعة السوداء ليست سوى عينة صغيرة من ممارسات رجال المليشيات الذين تسيّدوا الأجهزة الأمنية الرسمية، وأمعنوا في الأرض فساداً مستخدمين العجلات الحكومية وأسلحة الدولة، وتحت ظلّ الحماية التي توفرها لهم مواقعهم الوظيفية.
بقي أن يعرف القارئ أنّ أحداً من المسؤولين الكبار، وزير الداخلية مثلاً، لم يتقدّم باستقالته أو يحمّل نفسه المسؤولية، ولو حدثت هذه الواقعة في أيٍّ من بلاد الله لاستقالت الحكومة كلها، وجرت إحالة بعض مسؤوليها إلى القضاء، ولكن!