عن سورية والتطورات الجارية

04 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

القاسم المشترك لكل السوريين اليوم حيال ما جرى في شمال غرب سورية، هو الحيرة. حتى الفرحون بما يجري يخالط فرحهم قلق من أن يكون وراء هذه السهولة في السيطرة على مناطق واسعة، خديعة ما. هناك من تخوّف من أن تكون عواقب عملية ردع العدوان نسخة سورية من عملية طوفان الأقصى الفلسطينية. ففي غضون أيام قليلة، تمكّنت هيئة تحرير الشام، بالتحالف مع فصائل سورية أخرى، منها التي تسمّي نفسها "الجيش الوطني السوري"، من السيطرة الكاملة على محافظة إدلب وعلى معظم محافظة حلب، من دون خوض أي معركة حقيقية، وبوتيرة تقدم لافتة (السيطرة على حوالى 800 كم مربع في غضون ثلاثة أيام)، الأمر الذي شبهه بعضهم بعملية تسليم وتسلّم. يبدو أن قوات النظام السوري انهارت بطريقة فاجأت المهاجمين، ويشيع القول إن هذه القوات انسحبت بناءً على أوامر عسكرية. ربما كانت هذه الإشاعات صحيحة. في هذه الحال، إنها تنبئ عن توافق تركي روسي باتجاه معاكس لما جرى في نهاية عام 2016 حين انهارت قوات المعارضة تحت ضربات الطيران الروسي وتقدّم قوات نظام الأسد وداعميه للسيطرة على حلب. إذا صحّ ذلك، تتّجه سورية، على الأغلب، نحو شكل من التقسيم، يكون فيه ما يجمع الأقسام شبيهاً بما يجمع بغداد وأربيل في العراق. وربما كان الغرض من هذه الإشاعات التغطية على الانهيار وتصوير تفكّك قوات النظام وإخلائها مواقعها أنه تكتيك وانضباط عسكريان، في محاولة لطمأنة جمهور النظام، وإخماد التمرّدات التي يمكن أن تحرّضها مشاهد انهيار قوات النظام.

أثارت التطورات المفاجئة التي تسارعت أخيراً مشاعر متعاكسة لدى السوريين، بين ترحيب وفرح من قسم من السوريين، وخوف وإحباط من قسم آخر. في الحالتين، لا يتعلق الأمر بخيارات سياسية يختلف حولها السوريون، أي لا تتعلق هذه المشاعر المتناقضة بانتصار أو هزيمة توجهات سياسية عامة ومجموعة قيم عامة يفضل السوريون أو يكرهون أن تكون المعيار المعتمد لحكم بلدهم، ذلك أن مبدأ الغلبة والقوة بات المعيار الوحيد الذي يحكم هذا الصراع السوري منذ أن اتخذ نظام الأسد قرار "إبادة" الثورة معتمداً على القوة بوصفها الحل الوحيد، دون احترام أي قيمة سياسية أو إنسانية مهما كانت، ودون التورع عن توليد العصبيات الطائفية والعرقية والقومية والاستثمار فيها واستجرار الطاقة منها لتغذية تصلبه ضد أي عدالة ممكنة، فكان أن نجح في إبادة الثورة لصالح توليد صراع قوى تسلطية عارٍ من القيم السياسية والوطنية، وتستند إلى قوى خارجية، وتكنّ العداء، ليس للقوى الأخرى فقط، بل ولمحيطها الاجتماعي أيضاً، المحيط المحدد على أساس طائفي أو قومي.

خطوط تمييز عديدة يمكن تلمّسها بين السوريين حيال التطورات الأخيرة، الخط الأول من طبيعة جغرافية، هناك سوريون تمسّهم هذه التطورات مباشرة بحكم مكان وجودهم، مثل سكان المناطق نفسها الخاضعة لتبدل السيطرة، سواء منهم المقيم داخل هذه المناطق أو النازح عنها إلى مخيمات اللجوء أو أبناء هذه المناطق الذين لجأوا إلى خارج سورية. يتحكم بموقف هؤلاء التأثير المادي المباشر في حياتهم، وهذا يتأثر بموقف القوى المتصارعة منهم. فمقابل عودة أهالٍ إلى مناطقهم وأحيائهم التي عادت السيطرة عليها من قبل الفصائل المدعومة من تركيا، سينزح آخرون خوفاً من الانتقام أو من فرض نمط حياة معين، إلخ. ومقابل فتح أبواب السجون وخروج مظلومين (ما يفرح القلب) ستغلق هذه الأبواب على مظلومين جدد (وهو مما لا يفرح القلب)، ذلك لأن ما تأسّس في سورية إلى اليوم، هو أن القوة تتحكم بالسياسة، وليس العكس، أو بالأصح القوة هي السياسة نفسها دون نقص، لا يختلف في ذلك طرف عن آخر.

استقرّ حال القوات التي تواجه نظام الأسد على أنها من تنويعات الإسلام السياسي

الخط الثاني للتمييز هو الخط الطائفي. بعد فترة تحولات ليست طويلة، استقرّ حال القوات التي تواجه نظام الأسد على أنها من تنويعات الإسلام السياسي. ليس لأن جسدها بالكامل هو من المسلمين السُّنة (وهذه حقيقة)، بل لأنها تعي نفسها وغيرها من هذا الموقع الإسلامي السُّني، بدرجات متفاوتة من التمييز السلبي ضد غير السُّنة، تراوح بين التكفير والتسامح. في كلا الحالين، كل من هو غير مسلم سُني، يقع، في منظور هذه القوى، في دائرة خارجية، وإن كان في بلده، أي يُنظر إليه على أنه غريب، وأن سقف ما يطمح إليه هو التسامح. ليست جديدة، على الإسلام السياسي، هذه المفارقة التي يكون فيها المسلم السُّني غير السوري، أحق في سوريا من غير المسلم السوري. على هذا، فإن الأغلبية الغالبة من غير المسلمين السُّنة، ومن العلويين بوجه خاص، لن يكونوا فرحين بالتقدم العسكري الذي تحققه فصائل المعارضة السورية اليوم، على العكس، إنهم يستقبلون هذه الأخبار بكثير من الخوف والقلق.

الخط الثالث للتمييز من طبيعة قومية وعرقية، وهو يخصّ السوريين الكرد أساساً. الإسلام السياسي بطبيعته يتجاوز المسألة القومية، وهو لذلك جهة غير مرغوبة في نظر من يناضلون لنيل حقوقهم القومية. على هذا، لا يصلح الانتماء الإسلامي السُّني لغالبية الكرد السوريين أن يكون رابطاً لهم مع تيارات الإسلام السياسي السُّني. وقد شهد الكرد تجاهلاً لمطالبهم القومية في أولى مؤسّسات المعارضة السورية التي كانت تحت هيمنة إسلامية. هذا فضلاً عما تولد خلال تضاعيف الصراع في سورية من حساسيات وعداوات واتهامات بين تيارات مهمة من الكرد وبين جماعات الإسلام السياسي. على هذا، لم تكن الجماعات الكردية المسيطرة على بعض أحياء حلب متعاطفة مع المهاجمين، وربما كانت أقرب إلى قوات نظام الأسد.

لم تكن الجماعات الكردية المسيطرة على بعض أحياء حلب متعاطفة مع المهاجمين، وربما كانت أقرب إلى قوات نظام الأسد

الخط الرابع للتمييز سياسي، وهو الخط الأكثر هشاشة وضعفاً في الحقيقة. لأن أصحاب هذا الخط ممن يتجاوزون الانتماءات القسرية لصالح قيم وطنية وسياسية عامة، يبقون بلا قوة عسكرية تفرض نفسها على الأرض، ويبقون الضحايا الثابتين وطعام السجون الدائم مهما اختلفت قوى السيطرة. على أن هؤلاء هم الضمانة الأساسية لبقاء سورية موحدة ومعافاة، مهما تباعدت واختلفت تصوراتهم السياسية. إن أهم ضمانة لسلامة الحياة السياسية في بلد، إعلاء القيم السياسية والأخلاقية العامة فوق الانتماءات القسرية لأبناء البلد، وجعل هذه القيم مرجعية ثابتة في الوعي العام، من دون ذلك تكون حتى المؤسّسات الديمقراطية قليلة الفائدة. هذا ما يوضح إلى أي حدّ تمزق قوى الأمر الواقع النسيج الوحيد الذي يمكن أن يحمل سورية معافاة. وهذا ما يوضح مدى أهمية حماية الوعي العام من التلوّث بعصبيات هذه القوى ومن استسهال قبول دَوس قيم عامة، مثل حماية حياة الناس وكرامتهم مهما تكن الأسباب.

لكي يكون من شأن التطوّرات الأخيرة أن تفتح الباب لتطورات سياسية مفيدة للسوريين، ينبغي تغليب احترام القيم الإنسانية والوطنية على أي هوى سياسي مهما يكن، ومن دون أي مساومة. وحده تيار سوري واسع يحترم هذه القيم يمكن أن يلجم العصبويين من كل اتجاه، ويحدّ من تمزيقهم للبلاد.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.