عن رفض القوميين في تونس الديمقراطية
يذهب العديد من الباحثين المختصين في تونس، والعالم العربي عموماً، على غرار ميشال كامو وفنسون جسّار وحتى غسّان سلامة، وفريق آخر من المختصّين في العلوم السياسية، منهم على سبيل الذكر أوليفي لوروا وجيل كيبيل، في بداية الدراسات المتعلّقة بالعالم العربي، في أثناء ثمانينيات القرن الماضي، أن مسارات الدمقرطة تتعثّر في العالم العربي عموماً، لأننا بصدد بناء تجارب ديمقراطية من دون ديمقراطيين، فالإخفاق واضح لأسباب عدة، منها أساساً غياب ديمقراطيين "حقيقيين" يؤمنون بقيم الديمقراطية، ويلتزمون بقواعدها ويحتكمون إليها. تتقاطع هذه الأطروحة مع أطروحات عديدة ذات نزعة استشراقية، تعتقد أن الإسلام عموماً، باعتباره دين أغلبية العرب، لا يتسع أفقه الفكري لاحتضان قيم الديمقراطية. تتسرّب هذه الفكرة التي تلين وتشتد بحسب خصوصية مدارس الاستشراق في أعمالٍ عديدة، ما زالت ذات أثر قوي حتى على صنّاع القرار في عواصم عربية عديدة.
عادت هذه الأطروحات بعد الثورة التونسية واندلاع موجة الربيع العربي، خصوصاً عند انكسار موجتها الأولى، لتقول إن فشل تجارب الانتقال الديمقراطي لا يعود إلى إخفاقات اقتصادية أو عسر بناء التوافقات السياسية، بل تحديداً إلى عوامل ثقافية تشدّ في معظمها إلى الخلفيات الفكرية والأيديولوجية للتيارات السياسية ومجمل الفاعلين السياسيين الذين يقودون تجارب الانتقال، فالثورة التونسية، حسب هذه الأطروحات، تشكّل إحدى المفارقات المهمة، وهي أنها ثورة تنشد الديمقراطية، من دون أن يقود بناءها ديمقراطيون، لقيت هذه الأطروحة صدّاً آنذاك، بل بروداً واستهجاناً، غير أن علينا أن نأخذ قولها مأخذ الجد.
ظهر الفكر القومي مطالِباً بالوحدة العربية، بقطع النظر عن صورها وشكلها ومراحلها
في مجمل ما نشر هؤلاء الباحثون عن الثورة التونسية، وحتى قبل نكوصها بعد انقلاب 25 جويلية (يوليو/ تموز 2021) تحديداً، يذهب هؤلاء إلى اعتبار الفاعلين السياسيين التونسيين غير مؤمنين بالديمقراطية، رغم مطالبتهم بها، وهي في الأصل مطالبة مخاتلة، فما يحرصون عليه ليس سوى ديمقراطية النفاذ إلى السلطة واقتسامها أو تسلمها، حتى وإن كلفهم ذلك نقيض الديمقراطية، أي مزيداً من الاستبداد والتسلّط. تفيد هذه الأطروحة بأن العالم العربي، والإسلامي عموماً، يضجّ بمطلب الديمقراطية، غير أن "المدافعين عنها" لا يعتنقون بما يكفي قيم الديمقراطية، فهم أقرب إلى ثقافات تسلّطية شمولية، تؤمن بالاستبداد وتبرّره، فجل المناضلين الديمقراطيين قادمون من خلفيات أيديولوجية وسياسية يسارية أو عربية أو إسلامية. والحال أنّ هذه المنظومات لا تحتضن الديمقراطية، بل هي أقرب إلى استهجانها ورفضها. وهذا ما أكّده أيضاً الباحث التونسي حمادي الرديسي في الأعمال التي أشرف عليها من أجل فهم تجربة الانتقال الديمقراطي وإخفاقاته الدرامية، كما يذكر حرفياً.
وإذا كان اليسار العربي، مثل جل التيارات اليسارية الأوروبية، لم يقم بالمراجعات الفكرية والسياسية الضرورية التي تصالح الديمقراطية وتجعلها ركناً حصرياً في معتقدات هؤلاء وممارساتهم، فإنّ العروبيين هم أيضاً على رأس هذه الفئات. ظهر الفكر القومي مطالِباً بالوحدة العربية، بقطع النظر عن صورها وشكلها ومراحلها، غير مهتم بمطلب الديمقراطية، فسواء كان هذا الفكر مستنداً إلى أيديولوجيا البعثية والناصرية أو غيرهما، فإن الديمقراطية لا تضم إلى قائمة المطالب أو الضرورات. ظلت الديمقراطية النبتة البرّية المتوحشة التي لم يتم غرسها في تربة هذه الأيديولوجيا.
ساند القوميون كل الانقلابات، وما زالوا الأكثر احتفاء بها، وكلما سمعوا عن انقلابٍ ساندوه بكل حرارة
لم يشذّ العروبيون في تونس عن هذه القاعدة، وربما جسّدوا النسخة الأكثر بخساً ورفضاً للديمقراطية. ظلت فكرة الانقلاب بالمعنيين، الفكري والسياسي، عقبة كأداء في مصالحة فكرة الديمقراطية مع الأيديولوجيا القومية. انتعشت الفكرة القومية في الساحتين الطلابية والشعبية، وظلت الفصائل الطلابية، على اختلاف تلويناتها، رافضة قيم الديمقراطية، وهي أقرب إلى اعتبارها خدعة رجعية تبتكرها الانظمة العربية والغربية، من أجل احتواء ثورات الشعوب والتحكّم فيها.
ساند القوميون كل الانقلابات، وما زالوا الأكثر احتفاء بها، وكلما سمعوا عن انقلابٍ ساندوه بكل حرارة، حتى ولو كان في أقاصي الدنيا، واعتبروه ثورة وطنية، وهم لا يميّزون عادة بين هذه الانقلابات والثورات. تقدّم الثورة المصرية نموذجاً ناصعاً لهم. لم يختر أي شعب عربي حكّامه القوميين (أو هكذا يقدّمون أنفسهم)، بل قدموا كلهم على ظهور دبابات، قادمين من مؤسّسات عسكرية تسلطية حكم هؤلاء بالحديد والنار؟ قدّم الجاري في سورية والعراق "نموذجين مثاليين" لهذه الأنظمة التي تعتبر الديمقراطية مؤامرةً تحيكها أطرافٌ خارجية من أجل إحباط مساعي الوحدة العربية. لا يتصرّف هؤلاء تحت ضغط حماية أنظمتهم التي فقدت شرعيتها وشعبيتها المزعومة، بل أيضاً وفق النموذج الإرشادي الذي توجّهه أيديولوجيا القومية في نسخها العديدة، من ميشيل عفلق إلى نديم البيطار، مروراً بعصمت سيف الدولة وغيره.
يقدّم عزمي بشارة في دراساته المتعلقة بتجديد الفكر القومي العربي، وفي مقالاته أو مداخلاته، وتحديداً في مؤلفاته العلمية التي تناولت هذه القضية حصراً، ومنها "في المسألة العربية مقدّمة لبيان ديمقراطي عربي" نقداً عميقاً لمعضلة الديمقراطية في الفكر القومي تحديداً، مع ربطها بمسألة الأمة الديمقراطية والسيادة. كتب: "إن تجربة القوميين في الحكم تشكّل عائقاً أمام التجديد في قضايا الديمقراطية وحقوق المواطن، لأن ممارسة القوميين العرب في الحكم في قضايا حقوق المواطن والرقابة الشعبية على السلطة والحرّيات المدنية تخدش مصداقية التجديد الفكري الذي يضطلع به غيرُهم من العروبيين بهذا الشأن".
لم تقدّم هذه التيارات أي تضحياتٍ تُذكر في معركة الديمقراطية، وظلّت مكتفية ببعض المناوشات النقابية مع النظام
لم نُفاجأ حين ساندت جل الفصائل القومية في تونس بن علي، واعتبرته زعيماً قومياً عربياً (ما زال بعض من هؤلاء يدافع عن هذه الفكرة، ويقدّم حججاً عن قومية بن علي وبعض أركانه، على غرار وزير للداخلية عُرف باعتداءاته الوحشية وإشرافه على التعذيب مباشرة، وهو ما زال متمتعا بالإفلات من العقاب في قضايا عديدة، على غرار القتل تحت التعذيب والاغتصاب...)، خصوصاً عندما ساند صدّام حسين في أثناء أزمة الخليج، واعتبرت أن تلك المواقف تعدّ دليلاً ناصعاً على قومية بن علي. وتستشهد أطروحات أخرى بترخيص بن علي أحزاباً قومية انتظم فيها رموز عديدون في التيارات العروبية.
وفي كل الحالات، لم تقدّم هذه التيارات أي تضحياتٍ تُذكر في معركة الديمقراطية، وظلّت مكتفية ببعض المناوشات النقابية مع النظام ضمن قلاع الاتحاد التونسي للشغل الذي حذقت التغلغل في هياكله. حتى إذا قامت الثورة، ارتبكت هذه التيارات كلها، واشتغلت وفق مهمتين أساسيتين: الهيكلة في ظل أزمة التشتت المزمنة والتصدّي لعدوها اللدود التاريخي، مستنسخة مرارة التجربة الناصرية وصدامها مع الإخوان المسلمين. كانت عداوة التيارات العروبية الإسلاميين أشدّ من خصوماتها مع التيار البورقيبي أو الشيوعي... إلخ.
فشلت كلّ محاولات تقريب وجهات النظر في ظل "متخلد بالذمّة ورثته التيارات القومية في تونس" عن صراعاتٍ عاشها المشرق العربي: مصر، سورية، العراق، وحتى السودان... في حمّى التنافس على السلطة وهوس هزيمة الإخوان في تونس. لم تهتم الحركات القومية في تونس بمراجعة مواقفها من مسألة الديمقراطية، ولم تبلور، على الأقل، علناً، موقفاً صريحاً وواضحاً منها، فظلت مواقفها ملتبسة، غير أنّ وقوفها الصريح، ومن دون أي استثناء، مع الرئيس قيس سعيّد بعد انقلاب 25 جويلية (2021) يجعلنا أقرب إلى إقرار أنّ التونسيين عاشوا تجربة ديمقراطية من دون ديمقراطيين، ومن هؤلاء طيف واسع من التيارات القومية العربية.