عن دور المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

19 يوليو 2023
+ الخط -

تتدخل عوامل عديدة في صناعة الهويّة الوطنية والقومية لشعب من الشعوب، وتعتبر الدولة المصنع الرئيس لإنتاج الهوية الوطنية من خلال التعليم ومناهجه الموجّهة، كما من خلال التجنيد الإلزامي في الجيش والخدمة في أجهزة السلطة المتعدّدة، وعن طريق التعبئة في المناسبات المختلفة حول قيمٍ تمثلها رموزٌ وإشاراتٌ تقوم هي (الدولة) بصناعتها مثل العَلَمْ والنشيد الوطني، وغيرها من الأدوات التي تفعلُ فعلها في مراكمة رابطة جماعية بين أفراد الشعب المعيّن. وفي مسيرة تطوّر الإنسانية، لعبت مؤسّسات كثيرة أدواراً مهمة في تعزيز الهوية عند الجماعات البشرية، فكان للكنيسة في ما مضى أثرٌ حاسمٌ في تشكيل هوية شعوب أوروبا شرقيها وغربيها وأميركا وغيرها من دول العالم المسيحي، كما لعبت الرياضة، خصوصاً منها الجماعية، مثل كرة القدم، أدواراً لا يمكن نكرانها في هذا المجال، وكذلك كان للفن شيءٌ من هذا القبيل، وعلى وجه الخصوص، تلك الفنون التي تفترض كثافة بالمشاركة الجمعية في الساحات المفتوحة أو الصالات المغلقة. كذلك تقوم الجامعات والمراكز البحثية بقسط من المهمة.

تلعب الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث أدواراً كبيرةً في تطوير طرائق التفكير والعلوم المتعدّدة والمعرفة عموماً، وهي تساهم في مجال بناء المشتركات وتعزيزها بين الفئات الاجتماعية المختلفة. وغالباً ما تكون رسالة جامعة ما أو مركز بحثيّ ما عامّة، إلى درجة أنها تندرج ضمن السياق الطبيعي غير المفكّر في أثره في صناعة الهويّة الوطنية على نحو خاص، لكنّ ذلك ليس هو الحال عند بعضها، والمثال هنا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، للتأشير إلى جوانب يساهم من خلالها في صناعة الهويّة العربية.

يعرّف المركز العربي عن نفسه في موقعه الإلكتروني بالقول: "مؤسّسة بحثية فكرية مستقلة، مختصة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، في جوانبها النظرية والتطبيقية، تسعى، عبر نشاطها العلمي والبحثي، إلى خلق تواصل في ما بين المثقفين والمتخصصين العرب في هذه العلوم، وبينهم وبين قضايا مجتمعاتهم، وكذلك بينهم وبين المراكز الفكرية والبحثية العربية والعالمية، في عملية تواصل مستمرة، من البحث، والنقد، وتطوير الأدوات المعرفية.

يتبنى المركز رؤية نهضوية للمجتمعات العربية، ملتزمة بقضايا الأمة العربية، والعمل على رقيها وتطوّرها، انطلاقاً من فهم أنّ التطور لا يتناقض مع الثقافة والهوية، بل إنّ تطوّر مجتمعٍ بعينه، بفئاته جميعها، غير ممكنٍ إلّا في ظروفه التاريخية، وفي سياق ثقافته، وبلغته، ومن خلال تفاعله مع الثقافات الأخرى. ومن ثمّ، يعمل المركز على تعزيز البحث العلمي المنهجي والعقلانية في فهم قضايا المجتمع والدولة، بتحليل السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في الوطن العربي. ويتجاوز ذلك إلى دراسة علاقات الوطن العربي ومجتمعاته بمحيطه المباشر، وبالسياسات العالمية المؤثّرة فيه، بجميع أوجهها.

يزاوج المركز بين قضايا تخصّ النخب المثقفة، وقضايا تخصّ المواطنين العرب في جميع بلدانهم

وفي ضوء هذه الرؤية، يعمل المركز على تحقيق أهدافه العلمية الأساسية، عن طريق نشاطاته الأكاديمية المختلفة، فهو ينتج أبحاثًا ودراسات وتقارير، ويصدر كتبًا محكّمةً ودوريات علميةً، ويبادر إلى مشاريع بحثية، ويدير عدة برامج مختصة، ويعقد مؤتمرات، وورش عمل وتدريب، وندوات أكاديمية، في مواضيع متعلقة بالعلوم الاجتماعية والإنسانية، وموجّهة إلى المختصين، والرأي العام العربي أيضاً، ويساهم، عبر كل ذلك، في توجيه الأجندة البحثية نحو القضايا والتحديات الرئيسة التي تواجه الوطن والمواطن العربي. وينشر المركز جميع إصداراته باللغتين العربية والإنكليزية".

ويهم هذه المقالة هنا ما يؤكّد عليه المركز من اهتمامه بالفضاء العربي كلّه، وانطلاقه من تأكيدٍ حاسمٍ جازمٍ على وجود أمّةٍ عربيةٍ، وإدراكٍ عميقٍ لأهمية الدور الذي رسمه لنفسه للمساهمة في مجالات التطوّر من دون تناقضٍ مع الثقافة والهُوية، بل بالتأكيد عليها وتعزيزها وإبرازها ضمن نهجٍ يراعي السياقات التاريخية لتشكّل هذه الأمّة وثقافتها ولغتها وتلاقحها وتفاعلها مع غيرها من الأمم والثقافات الأخرى. يجعلنا هذا نعتقد أنّ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يأخذ على عاتقه جزءًا من مهمة جليلة لم تهيّئ الظروف التاريخية للأمّة العربية مؤسّسة تقوم بها، ونعني بالمؤسسة هنا الدولة.

الدولة شرط لازمٌ وغير كافٍ لبناء الأمّة، فهي الجهاز الذي يطابق بين تصوّر شعبٍ ما من الشعوب عن نفسه وإمكانات تحقيق هذا التصوّر وأدواته. من هنا، يمكن القول إنّ غياب الدولة العربية الواحدة الموحّدة أوقع الأمّة في حالٍ من الفقد والخسران، فقد فاتَ الشعوب العربية أهمّ أداةٍ من أدوات صناعة الهوية العربية، فهذه الشعوب موزّعة على دولٍ وكيانات قُطرية متباينة ليس فقط في أنظمة الحكم، بل وأيضًا في الموارد والتحدّيات وظروف النشأة والتكوّن، وحتى التطلعات المستقبلية. من هنا، أهميّة ما يقوم به المركز من تعزيز العوامل التي أسّست وتؤسس للأمّة العربية بالمفهوم العام، مثل اللغة، وهكذا اندرج مشروع المعجم التاريخي للغة العربية إلى جانب معهد الدوحة للدراسات العليا للاهتمام ليس فقط بأهمّ عناصر الهُوية العربية، أي اللغة، بل أيضا للاهتمام ببناء الإنسان حامل هذه اللغة بين ضلوعه وفي فكره.

 تلعب الجامعات والمعاهد العليا ومراكز البحوث أدواراً كبيرةً في تطوير طرائق التفكير والعلوم المتعدّدة والمعرفة عموماً

يزاوج المركز بين قضايا تخصّ النخب المثقفة من خلال تطوير العلوم الإنسانية على اختلاف أنواعها، والتي طالما حُرمت فرصَ نموها وتطوّرها عربيًا بسبب خطورتها على بنية الحكم الاستبدادي السائد، وقضايا تخصّ المواطنين العرب في جميع بلدانهم من خلال ربط البحوث والدراسات بالواقع الاجتماعي والتحدّيات التي يعيشونها وتصنع مصيرهم الفردي والجماعي. كانت انطلاقة المركز قبل وقت قصيرٍ جدًا من اندلاع ثورات الربيع العربي، ومع ذلك، كان من أكثر المؤسسات التي واكبتها وساهمت في تفسيرها وتحليلها وتبيان آفاق تطوّرها والعقبات القابعة في طريقها والتحدّيات الماثلة أمامها. ما كان لهذا كلّه أن يتمّ من دون رعاية سامية من دولة قطر التي تكادُ تكون واحة في صحراء تحاصر الفكر والثقافة والمثقفين، كما أنّ توفر الرعاية والدعمِ وحده لا يكفي من دون وجود إدارة عظيمةٍ تحمل همّ أمّة، وتسعى جاهدة إلى تحقيق هويتها وصناعة مستقبلها.

في النهاية، يمكن للمرء أن يقترح، بتواضعٍ جمّ، على هذه الإدارة توسيع قاعدة نشر العلم والمعرفة من خلال أدواتٍ بسيطة وحديثة وغير مكلفة، بحيث تصل إلى المواطنين العرب في كل مكان من المعمورة، ومهما كانت ظروف عيشهم وعملهم، منها على سبيل المثال رفع جميع الندوات والمحاضرات وورش العمل على وسائل التواصل الاجتماعي، وتسجيل الأبحاث والدراسات والكتب المنشورة من المركز صوتيًا، وإجراء تلخيصات صوتية ومرئية مكثّفة تلبي احتياجات المتخصّصين، وأخرى مبسّطة تلبي احتياجات غير المتخصصين. وهكذا يمكن إيصال المعرفة إلى جميع الناس، وبكلّ الأدوات الممكنة، فليس لدى الجميع القدرة على القراءة أو الوقت أو حتى الرغبة، بينما تتزايد أعداد المتلقين بصرياً وسمعياً. وهكذا يمكن للعامل في ورشته أو المزارع في أرضه أو الرياضي في ملعبه أن يسمع أو يشاهد ما ينتجه المركز، وهذا ما يساهم في إعادة إنتاج الهُويّة العربية.

56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
56B14126-91C4-4A14-8239-0C25A8235D5D
حسان الأسود

كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.

حسان الأسود