عن حلم الثورة السورية في 13 عاماً
انقضت ثلاثة عشر عاماً على اندلاع ثورة السوريين، ولم تكتمل، أو بالأحرى لم تتحقّق وعودها في الخلاص من نظام الأسد الاستبدادي، وفي تجسيد حلم سوريين كثيرين في العيش بكرامة، وبناء سورية أخرى، تقوم على التداول السلمي للسلطة، ودولة القانون، والمواطنة المتساوية، والعدالة الاجتماعية، واحترام وصيانة حقوق الناس بمختلف أطيافهم الدينية والإثنية، فقد أُجهض الحلم، وبقيت الآمال معلّقة إلى أجل آخر، حيث ما تزال فكرة الثورة تسكن وعي ناشطين سوريين كثيرين، وبما يحولها إلى فكرة حيّة، باحتلالها حيزّاً من وعيهم وتفكيرهم، وتنتظر تحقق كينونتها حين تأتي لحظة الإمكان والتجسّد على التربة السورية.
بالابتعاد عن النفعية السياسية، والنظر إلى ثورة السوريين بوصفها حلماً لا يزال ينتظر التجسيد، يحتاج السؤال عن الكيفية التي أفضت إلى قيام الثورة مساحات واسعة من التفكير، ويطاول ما قام به مشاة الثورة، شبّاناً وشابّات، وحجم ما قدّمه عموم السوريين من تضحياتٍ طبعت حراكهم الاحتجاجي بطابعها المميز، بوصفه احتجاجاً ورفضاً من جماعات واسعة من السوريين، العاديين والمهمشين، على عقود مديدة من الاستبداد المقيم في بلادهم وامتهان كرامة الناس فيها، وعلى الأزمة الاجتماعية المقيمة، والاستعباد والاستبعاد والإقصاء والتمييز في كل شيء. وقد انفجر ذلك كله في لحظة الثورة، للتعبير عن مدى احتقان كتلة تلك الشعبية الهائلة، المأزومة والقلقة. كتلة لم تجد أي تعبير سياسي لها في ظل النظام الأسدي، الاستبدادي والمافيوي، يمكنه أن يفتح لها في الفضاء أفقاً، ويمنح مشاركتها في الحياة العامة معنىً وجدوى.
دفع سوريون كثر أثماناً باهظة في حراكهم الاحتجاجي، ودفعوا كذلك جرّاء معاناتهم، بعد إجهاض ثورتهم، من تسلّط قوى الأمر الواقع، بمن فيها نظام الأسد، وتجسّد ذلك في تضحياتٍ بالأرواح وبالأجساد، ودمار أماكن السكن ومصادر الرزق، وتبعات اللجوء في بلدان الشتات. وفي المقابل، لم يكن ثمة شيء يخفف من تطلّع السوري إلى الانعتاق، والتحرّر، والخلاص من واقع لا يطاق، والرغبة في الوصول إلى فضاءات جديدة، والحلم في بناء صروح الحرية ومقامات تشييدها.
لم يكن ثمة شيء يخفف من تطلّع السوري إلى الانعتاق، والتحرّر، والخلاص من واقع لا يطاق
إذاً، يأتي مرور 13 عاماً على الثورة، ليُشكل مناسبة للحديث عن تضحيات قدمها الإنسان البسيط، العادي، أو الصغير حسب مفهوم فرانز روزنتال، المقموع أيضاً عقوداً طويلة، والذي خرج متظاهراً بشكل سلمي في منتصف مارس/ آذار 2011، كاسراً حاجز الخوف، الذي بناه نظام الأسد بنسختيه، الأب والابن، ومتحدّياً بجسده العاري رصاص قوات هذا النظام واستخباراته وسكاكين شبّيحته وسيوفهم. هو إنسان بالمعنى السائد لكلمة إنسان، اكتشف صوته وجسده، وراح يعبّر عن ذاته في تظاهرات الساحات والشوارع والأزقّة، ولم يكن يحسب أي حسابٍ للثمن الذي عليه دفعه، نتيجة خروجه من القوقعة المظلمة، التي حبسته فيها أجهزة نظام الاستبداد الشمولي عقوداً عديدة.
يحيل التفكّر في مفهوم الإنسان البسيط، الذي كان صامتاً بين أوساط عامة الناس، ولم يتردّد في دخول عالم الثورة، إلى تأمل كيفيات الولوج في فضاءات المواجدة والمحايثة، تلك التي تمنح الإبداع وجوداً ومعنى، حين تخلّى الإنسان السوري عما كانت تعجّ به ذاكرته الموروثة من كل براثن النظام وشخصناته ورموزه، كي يدخل عالماً مختلفاً ومغايراً عن السائد، حيث تشكل مفاهيم الثورة وشخصياتها المفهومية، بالاستعانة مما اجترحه الفيلسوف جيل دولوز، كليات غير متراصّة وغير متطابقة، بكل تشظّيها، لكنها تتراصف فيما بينها، كي تبني مقاماً لإنسانٍ جديد، وشعب جديد، عبر انسيابيّتها وانشيالاتها على مسطح المفاهيم، الذي لا يطابق مقامها، ذلك أن الثورة تحضُر دوماً بوصفها عملية هدم وبناء في الوقت نفسه، فيما تشبه مفاهيمها موجات متعدّدة، تعلو وتهبط، ويمثّل مقام محايثتها الموجة الوحيدة، البارزة، التي تلفّها وتنشرها على السطح.
لعل انتكاس الثورة السورية، وتحوّلها إلى حالة كامنة، بفعل عوامل عديدة، أفضى إلى عدم قدرتها على الانتقال إلى مرحلة القوة والفعل
ارتبطت شخصيات الثورة السورية بالمحتجين الذين خرجوا إلى ميادين التظاهر، وتحوّل ذلك الإنسان المقموع إلى بطل مفهومي في حدث الثورة، عندما ظهر فاعلاً في حراك معظم مناطق سورية ومدنها. وتشكّلت شخصيته الجديدة في فعاليات الحراك الاحتجاجي السلمي ومشهدياته التي لا تزال ماثلة في الأذهان، لكن نظام الأسد أنهاها عبر ارتكاب المجازر علناً، فيما اكتفى العالم بمشاهدة وقائع تلك المجازر، بما فيها مجزرة الكيماوي في غوطتي دمشق، وفي سواها من المجازر، التي تنقلت على كامل الأرض السورية. وارتبطت الثورة بالمشاهد اليومية لجثامين الضحايا المحمولين على الأكتاف، ولم يسلم خلالها المشيّعون من أعمال القتل، بل كانت أجهزة النظام وقواته تستهدفهم على الدوام، وتحوّلوا في أكثر من موقع إلى ضحايا، لتتحوّل مواكب التشييع إلى حدثٍ رمزي، يرتقي إلى مقام جديد للثورة، كونه ارتبط بما لازم حدثَها التاريخي، ونتجت عنه مركبات ودلالات، رسمت معنىً جديداً للتضحية، بوصفها ثمن رفض الإذلال والمهانة والخنوع. لذلك لم يكن مصادفة أن يطالب المحتجون السوريون، الذين خرجوا منذ بداية الثورة، باسترجاع كرامتهم المهدورة، وتجسّد ذلك في شعار الثورة التأسيسي "الشعب السوري ما بينذلّ"، حين خرجوا في أول تظاهرة عفوية، ملأت ساحة "الحريقة" في قلب دمشق التجاري في 17 فبراير/ شباط 2011، ثم أخذ هذا الشعار صيغة جديدة، جسّدتها عبارة "الموت.. ولا المذلة".
لا تزال شخصية المحتج حيّة بعد مرور 13 عاماً على الثورة، لأنها تحوّلت إلى شخصية مفهومية فيها، بوصفها تمثل ذلك الإنسان الذي واجه جيش النظام وأجهزة أمنه وشبّيحته ليس من أجل الموت، ولا حبّاً به، بل من أجل حياة تخلو من الاستبداد، ينال فيها حرّيته وحقوقه، ويمكنه تحقيق تطلعاته وتطلعات من حوله في بناء وطن جديد. وإن كانت ثمّة علاقة بين المحتج السوري وسلوكه الحياتي، وبين الثورة التي خرج من أجلها، فإنها لم تأخُذ شكل علاقة غيبية، إلا حين ترك المجتمع الدولي السوريين يواجهون الموت وحدهم على يد قوات النظام، لأن الأنظمة المهيمنة على المجتمع الدولي تبني سياساتها على أساس مصالح النخب الحاكمة والمهيمنة على صنع القرار فيها، وليس على أساس مصالح شعوبها، التي ناصر سوادُها الأعظم ثورة السوريين. ولعل انتكاس الثورة، وتحوّلها إلى حالة كامنة، بفعل عوامل عديدة، أفضى إلى عدم قدرتها على الانتقال إلى مرحلة القوة والفعل، ومع ذلك، لا تزال تنتظر لحظة انبلاج جديد.