عن حروب شيخ محمود المتعدّدة في الصومال
حقّق شعار "صومال متصالح ومتصالح مع العالم"، والذي تبنّاه الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود خطاباً ترويجياً له في حملته الانتخابية في مايو/ أيار عام 2022، شعبية كبيرة في أوساط النخبة السياسية ونواب البرلمان بغرفتيه (مجلس الشعب والشيوخ)، ليتحوّل لاحقاً وعشية الانتخابات الرئاسية إلى ما يشبه مغناطيساً دعائياً جاذباً لكل صوت انتخابي في أروقة البرلمان، فالخطاب السياسي المسترسل الذي يمتاز به الرئيس يثير إحساس الجميع، ويدغدغ المشاعر المرهفة التوّاقة إلى أمن واستقرار سياسي في الصومال، معلناً في خطابه الانتخابي وعوداً انتخابية تضمّنت حرباً شاملة على حركة الشباب المرتبطة بالقاعدة ومكافحة الفساد، وفرض مصالحة داخلية لترميم ما أفسدته معاول الهدم وتلاسن الحرب الإعلامية بين القيادات العليا في الحكومة عبر الأثير بسبب الخلافات بشأن آلية إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وكسر حالة الجمود وإذابة جليد التوتّرات في ملفات خارجية إقليمية ودولية.
مرَّ عام منذ انتخاب شيخ محمود رئيساً للصومال، وهو يحمل خبرة إدارية وسياسية، واعدا بمزيد من الإصلاحات وبناء مؤسّسات الدولة من جديد وسنِّ التشريعات والنظم الإدارية لبلد مضطرب أمنياً وسياسياً ثلاثة عقود. فاخر شيخ محمود في أثناء حملته الانتخابية بما حققه في فتر حكمه السابقة (2023 - 2016) من نقل البلاد من مرحلة الحكومات الانتقالية إلى فترة الحكومة الفيدرالية، وإعادة تشغيل عديد من المؤسسات الرسمية، ومكافحة حركة الشباب التي كانت تسيطر على 80% من جنوب البلاد. وتعهّد شيخ محمود بعد انتخابه وتتويجه رئيساً للبلاد في 23 مايو 2022، بمواصلة إصلاحاته السياسية والأمنية ومجابهة تحدّيات لا حصر لها لانتشال بلده من نفق الفوضى الإدارية والإرهاب ومستنقع الأزمات الاقتصادية، معلّلاً ذلك بأن البلاد في السنوات الخمس الماضية تراجعت أمنياً وسياسياً، وكادت أن تقع فريسة للإرهاب والفوضى الأمنية والسياسية.
لا يخفي الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود تبنّيه الخطاب السياسي المرن في التعاطي مع مسائل داخلية وأخرى خارجية
شهدت علاقات الصومال الخارجية تذبذباً كبيراً في فترة حكومة الرئيس محمد عبد الله فرماجو بعد توترات سياسية ودبلوماسية مع جيبوتي وكينيا، وهو ما جعل هيئة "إيغاد" الإقليمية غير فعَّالة في عقد جلساتها الدورية، أو حتى تنفيذ مقرّرات ومخرجات تتمخّض عن جلسات تعقد عبر تقنية الفيديو، لدواعٍ صحّية تارة وأخرى لعدم حضور رؤسائها بسبب خلافات وتوترات بين أعضائها، وهو ما جعل هذه القمّة أشبه ببركان نار نشط. لكن المياه، بعد مجيء شيخ محمود إلى سدّة الحكم في الصومال، عادت إلى مجاريها الطبيعية، وتبدّل المشهد أيضاً في كينيا بانتخاب رئيس جديد (وليام روتو)، وطويت صفحة الخلافات بين مقديشو ونيروبي، إلى درجة فتح الحدود البرّية المغلقة منذ عام 2012، وهو ما قد يعكس عودة قوية لحرارة الهاتف بين البلدين، برغم وجود انتقاداتٍ توجّه إلى قيادة مقديشو في مسألة تراخيها عن استمرار تجارة القات من المزارع الكينية التي تستنزف خزينة الاقتصاد الصومالي، بينما تردّت العلاقات مع جيبوتي بشأن ارتباط مقديشو بأسمرة التي تتنازع مع جيبوتي على حدود برّية، وذلك في تحالف ثلاثي بين مقديشو وأسمرة وجيبوتي، وهو ما أثار حفيظة الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيلي. وتفاقم الخلاف بعد توقيف رئيس جهاز المخابرات السابق فهد ياسين في مطار جيبوتي، استنكرتها مقديشو لاحقاً. وحالياً، تشهد العلاقات بين البلدين تحسّناً كبيراً، وشارك الرئيس جيلي في مناسبات عديدة في مقديشو إلى جانب كل من الرئيس الكيني ورئيس الحكومة الإثيوبية أبي أحمد، ومنها القمة الأمنية الرباعية التي احتضنتها مقديشو في مطلع يناير/ كانون الثاني الماضي، وعدَّ مراقبون هذا تحسّناً دبلوماسياً لعلاقة حكومة مقديشو مع جوارها الإقليمي، بعيداً عن الهواجس الأمنية المشتركة بين دول القرن الأفريقي بفعل تزايد نشاط حركة الشباب ما بين عامي 2018 و2022.
لا يخفي الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود تبنّيه الخطاب السياسي المرن في التعاطي مع مسائل داخلية وأخرى خارجية، فسياسة تصفير المشكلات مع الداخل أتت أكلها حتى الآن على الأقل، فمن أصل خمس ولايات فيدرالية حقّق وفاقاً داخلياً بين المركز والأطراف، بينما العلاقة مع ولاية بونتلاند التي جنحت وبسرعة البرق إلى العدول عن مسار الوفاق إلى الخلاف مع حكومة مقديشو كما جرت العادة منذ 2012، متوترة لأسبابٍ تبدو غير منطقية في أحيان كثيرة، وتنحصر في أغلبها بمصالح شخصية بين الأطراف الفاعلة في السياسة الصومالية هنا أو هناك، ما يهدّد مسار إجراء مصالحة شاملة في تلك الولاية التي تشهد حالياً انتخاباتٍ شعبية لاختيار ممثلي البلديات، تمهيداً لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية ينتخب الشعب قيادته عام 2024 ولأول مرة منذ تأسيسها عام 1998.
يحاول الرئيس حسن شيخ محمود إمساك العصا من الوسط من دون ليّ أذرع الصومال هذه المرّة لدولة خليجية على حساب أخرى
أمنياً، أحكم الجيش الصومالي قبضته على ما يقرب من 80 منطقة كانت تحتضر ببطء تحت قبضة حركة الشباب ولأكثر من 15 عاماً، حيث يُجري الجيش الصومالي عملية عسكرية هي الأولى من نوعها منذ سنوات، لحسم المعركة ضد "الشباب" مستخدماً استراتيجية "حرب الاستنزاف والتقدّم البطيء" المتمثلة في شنّ عملياتٍ عسكريةٍ متقطّعة وفي مساحات مختلفة، لكنها حربٌ مكلفة، بدأت من دون سابق تخطيط ولا تنسيق عسكري من الجانب الصومالي، وهو ما يجعل الحكومة الفيدرالية تدفع أثماناً في مقارعة مسلّحي حركة الشباب الذين يجيدون حرب الغوريلا لشنّ ضربات مميتة ضد الجيش الصومالي والقوات الأفريقية، جديدها أخيرا هجوم على قاعدة تابعة للقوات الأوغندية على بعد 130 كيلومترا جنوب مقديشو. ونفذت الحركة، بحسب الناطق العسكري باسمها عبد العزيز أبو مصعب، ما يقرب من ألف عملية عسكرية استهدفت معاقل وثكنات للجيش استولت على ذخائر ومدرّعات عسكرية وقتلت مئات من أفراد الجيش، وذلك بسبب ضعف استراتيجية الجيش في مواجهة (وإحباط) مخطّطات حركة الشباب التي تراجعت قوتها الميدانية بوسط البلاد، بعدما فقدت حيازة مدن ساحلية استراتيجية في مطلع العام الجاري (2023).
خليجياً، يحاول الرئيس حسن شيخ محمود إمساك العصا من الوسط من دون ليّ أذرع الصومال هذه المرّة لدولة خليجية على حساب أخرى، برغم وجود تباين في المواقف بين الدول الخليجية وفي مقدمتها السعودية والإمارات وقطر تجاه الصومال، حيث إن تلك العواصم الخليجية نشطة في البلاد حالياً دبلوماسياً وإنسانياً بفتح سفاراتها وبعثاتها الدبلوماسية في مقديشو. ويكرّر شيخ محمود مقولة "صفر مشاكل" مع الجميع إطارا سياسيا يوحّد منهجيته في التعامل مع الجانب الآخر، برغم أن تلك الدول الخليجية لا تهتم بضخّ استثماراتها في قطاعاتٍ حيوية في البلاد، على عكس تركيا التي استثمرت في قطاعات مختلفة، وتحاول مقديشو أن تطوّر استراتيجية جلب الاستثمارات الخليجية في الصومال، وانطلقت خطّتها من الدوحة بعدما التقى شيخ محمود بعدد من كبار تجارها في الشهر الماضي (مايو) بحثاً عن مستقبل استثماري واعد وأفضل لبلد مزّقته الحروب طويلاً.
المخاطر التي يُواجهها الصومال مهولة، في غياب دعم حقيقي لقُطر عربي يحاول الخروج من قاع الفشل بخطواتٍ أثقلتها التحدّيات عقوداً
تبقى التحدّيات الجمّة التي يجابهها الرئيس الصومالي بمنزلة اختبار صعب لاحتواء خطر حركة الشباب بالحرب ضدها أو بالتفاوض معها، وهو خيار لا يستبعده الرجل، خصوصا مع الجناح الصومالي داخل الحركة، وذلك بعد إضعافها وهزيمتها عسكرياً، وقبول من يستسلم من قياداتها للأجهزة الأمنية وإعادة تأهيلهم ودمجهم في الحياة السياسية، وهي سياسة فرّق تسد تنتهجها الحكومة الفيدرالية لتفكيك "الشباب"، بعدما احتضنت قيادياً سابقاً في الحركة، وعينته وزيراً للأوقاف (مختار روبو علي أبو منصور)، بدعوى أن الكفَّ عن إراقة الدماء يكفّر عما قبله من أخطاء وجرائم برغم عدم وجود عدالة انتقالية في بلد مثل الصومال لم تتحقق فيه بعد مصالحة اجتماعية بين قبائله، وما زال كثيرون ممن يحملون على أعناقهم دماء الأبرياء العزّل يسرحون ويجولون في الوسط الاجتماعي بلا جريرة ولا سابقة عذاب.
من الصعب الجزم مبكّراً بأن إدارة الشيخ محمود ستتمكّن في غضون أعوام قليلة من التغلب على تحدّيات كثيرة لا تكمن صعوبتها في كيفية تجاوز معضلات أمنية واقتصادية عمرها ثلاثة عقود، بل تبقى محصورة في مجملها في آلية احتوائها جذرياً وإيجاد بيئة مواتية وآمنة للانتقال من مرحلة اللادولة (الدولة الفاشلة) إلى نظام دولة ديمقراطية تحقّق شروط النهضة وتؤطر لحكم رشيد أساسه تطبيق العدالة التي غُيبت عقودا ويبعث الأمل من جديد في النفوس الخربة، كما الجدران التي طاولتها معاول الهدم سنوات، من السهل التباهي بإنجازات معالجتها مؤقتة، تتلاشى سريعاً كالرغوة في الهواء، لتعود الأمور إلى حالها الفوضوي، بل أسوأ منه أحياناً. وهذا عين الفوضى في سوء التفكير السياسي الناتج عن عصفٍ ذهني سريع، غير خاضع لتحليل منطقي ورؤية ناضجة تفكّك الوضع الراهن، فما إن فكَّت عقدة أزمةٍ حتى تأتي بعدها أخرى أشدّ تعقيداً، فالمخاطر التي يواجهها الصومال مهولة، في غياب دعم حقيقي لقُطر عربي يحاول الخروج من قاع الفشل بخطواتٍ أثقلتها التحدّيات عقودا.